عن مأوى لها.. ضوء المصباح الذي يُنير الفسحة الضيّقة أمام منزله كان ينوس قليلاً، ثمّ لا يلبث أن يستردّ توهّجه.. صوت موسيقى خفيف تسلّل إلى سمعه دون أن يدري إنْ كان ذلك من شقته أم من شقّة مجاورة. توقّف فجأة. نسيمات الليل كانت مشبعة بالرطوبة. نظر إلى النوافذ المغلقة، كانت تكفّنها الستائرُ من الداخل. همس:
- ما الذي يجري خلف تلك الستائر؟! تلك النوافذ المغلقة تُخفي خلفها مئات القصص، نساءٌ تهلوسن، تنتظرن إطفاء الجمر، رجالٌ يهمسون بالبغاء، أطفالٌ وجدوا أنفسهم دون أبٍ شرعي، شيوخٌ يهربون بالنوم من شيخوختهم، المراهقون الذين يختلسون النظر إلى أفلامٍ إباحيّة، صورٌ في كتبهم يقرؤونها بدلاً من الدروس، غبارٌ يغطي آلاف الحقائق، أسرّةٌ يقتلها الصقيع، ملابسٌ لا تخشى العُري، تجارٌ وسماسرة، بائعو الحقائق، الشخصيات المزيفة!
«وأنا؟»، سأل نفسه وهو يستند على حافة السور «ما الذي أخّرني إلى هذا الوقت؟!».
سقطت قطرة ماءٍ على وجههِ، كانت باردة، مخيفة، تسلّلتْ عبر أشعار ذقنه، مدّ يده ومسحها، أحسّ بالبرودة للمرّة الأولى. كانت يده باردة، خشنة بعض الشيء. إنّها المرّة الأولى التي يشعر بهذا الشعور منذ أن تزوّج. عاد للبحث عن إجابةٍ تكشف له سرّ السهر خارج المنزل حتى وقت متأخر من الليل.. تذكّر أنّه في مثل هذا اليوم ومنذ حوالي العقد تقريباً تزوج منها. قال متهكّماً:
- ماذا يعني هذا؟ هل عليّ أن أحضر لها هديّة للمرّة الأولى؟! «ثمّ من الممكن أنها لم تعد تتذكّر هذا التاريخ».
سقطتْ قطرة ثانية على وجهه في نفس المكان، انسابت على وجهه، كانت باردة أيضاً، لم يمسحها، تتالتْ قطرات الماء على وجهه، السماء صافيةٌ ولا وجود للغيوم فيها، القمر يرتدي عباءته الفضيّة، والنجوم ساهماتٌ خلف الأفق.. تزاحمتِ الأسئلة بشكلٍ جنوني في مخيلته، تقدّم قليلاً، أصبح قريباً من مدخل شقته.
تفقّد رزمة المفاتيح، لم يجدها، فتّش في جيوبه كلها، دون جدوى!
«ما العمل»؟ تساءل وهو يتحسّس وجهه الذي أصبح مبللاً:
- يا إلهي لقد طالت أشعار ذقني ولم تعُد ناعمة كما كانت عليه قبل حوالي عشر سنوات، أصبحتْ أبريّة الملمس، حادّة، حاقدة. فيما لا يزال يبحث عن رزمة المفاتيح.
تراجع عدّة خطوات إلى الخلف، كان عليه أن يعود إلى هناك، المسافة بعيدة ومن الممكن ألا يجدهم مستيقظين، وما المانع في عودتي إليهم؟ ثمّ.. ألم آتِهم بعد منتصف الليل في كثيرٍ من المرّات؟ «يا إلهي أيّ شتاءٍ يعصف بي؟». تتالت القطرات على وجهه، لم يعُد يبالي بها. فجأة انطفأ المصباح في الشارع واختفى خياله تماماً، تحسّس وجهه، وجده بارداً. كانت أصابعه ترتجف دون أن يعلم السبب. عاد واقترب من باب شقّته:
«ستسألني حتماً عن رزمة المفاتيح، اعتدتُ دائماً أن أفتح الباب وأدخل دون أن أوقظها، لن أدخل».
عاد إلى الشارع، مشى عدّة خطوات، لم يتوقّف تساقط قطرات الماء على وجهه. نظر إلى السماء، لا وجود للقمر، غيوم تسرع باتجاهات مختلفة.. تخيّل ذلك: «يبدو أنني كبرتُ دون أن أنضج».. لهذا ما زلتُ أتردّد عليهم!
- إلى متى؟ يجب أن أمتنع عن السهر معهم ومنذ هذه اللحظة. ولكن.. رزمة المفاتيح، من المؤكد أنني نسيتها هناك، عندهم، سأعود وأحضرها.. أجل سوف أعود إلى هناك. مشى باتجاه الحي الغربي، لكنه عاد عن قراره. عاد للتفكير بالهديّة والمفاتيح، اقترب من باب شقته.. مدّ يده المرتجفة، رنّ الجرس، انتظر قليلاً، قطرات الماء ما زالت تبلّل وجهه.. رنّ الجرس ثانيةً.. فتحتْ زوجته الباب.. نظر إلى وجهها، كان مبللاً أيضاً، لا وجود للنجوم.. القمر عارٍ، وغيومٌ تُسرع في كل اتجاه!
قال لها وهو يسند رأسه على الباب:
- يبدو أن الشتاء دخل إلى منزلنا! ربما أنكِ من أغرى الرياح والعواصف بزيارتنا! نظرت إليه بكل ما تحمل الأنثى من انكسار وقالتْ:
- وأنتَ، متى سيذوب هذا الجليد المتكوّم على لسانك وفي قلبك؟
حدّق ملياً في وجهها الذي أرهقته الوحدة، ثم ذهبا لينام كلٌ منهما وحيداً!