ليتفاخر به أمام الطلاب، وعدنان كان في مدرسة الوحدة العربية التي تقع في المدينة القديمة، وبيته كان يقع في المدينة القديمة، يستيقظ في الساعة السابعة والنصف، فيغسل يديه ووجهه بالماء والصابون، ثم ينشفهما بالمنشفة، ويرتدي صدريته، ويحزم حقيبته على ظهره التي كان قد جهزها عند المساء، ثم يتجّه إلى المدرسة، في الطريق يكون كل شيء صامتاً، ما عدا بعض طلاب المدرسة الآخرين الذين يمشون بتثاقل، وهم يحملون كتلة الكتب والأقلام والدفاتر على ظهورهم.
عدنان كان نشيطاً، ولا بأس من اللعب في الشارع، مرّة يضرب الأشياء المعدنية برجله، ومرّة يضع غصناً بين رجليه، وينطلق به نحو المدرسة.
قرع الجرس واصطف التلاميذ، قال الأستاذ المناوب: استارح، استاعد، وانداح النشيد الوطني يملأ المدرسة، والبيوت التي تجاوره، ثم أمسك عدنان يد التلميذ الذي بجانبه، واندفعا يكرجان إلى الصف، وعند الباب كان تلميذ يسده بكل جسده، ممّا استدعى المعلم المناوب لأن يلطّه عدّة ضربات بالمسطرة على رأسه، كي يفلت الباب.
دخل الأستاذ إلى الصف، فصرخ أحد الطلاب «قيام»، فوقف التلاميذ قياماً، وقف الأستاذ خلف الطاولة، فوجد كل شيء معداً تماماً على أكمل وجه، حكمة اليوم:
« من جد وجد ومن سار على الدرب وصل «
عدد التلاميذ: 43، الغياب: اثنان، الدرس: قراءة، وباقي السبورة نظيفة، نظر إلى التلاميذ نظرة فيها الكثير من اللؤم والعتاب، وقال: نعم أيها التلاميذ، ما هو الدرس اليوم؟ فقالوا: جميعاً، وبصوت واحد، قراءة، والآن لنفتح الدفاتر على الوظيفة القديمة، فأخرجت الدفاتر وفتحت، وكتب تحت الوظيفة «شوهد»، وتوقيع الأستاذ بالقلم الأحمر، وأخرج الأستاذ الذين لم يكتبوا الوظيفة، وكل واحد منهم رقّه ثلاث عصي، وباشر الأستاذ الدرس الجديد «القراءة»، ثم تلا ذلك درس التعبير عن «صف شعورك وأنت في فصل الخريف». بعد ذلك خرج التلاميذ باستراحة ضربوا بعضهم، ورشوا الماء في المغاسل، وعادوا بعدها إلى الصفوف يأخذون جدول الضرب 3 × 4، ثم درس العلوم عن «النظافة العامة» ثم خرجوا إلى «الفرصة»، يتهاوشون ويلعبون ويجرون وراء بعضهم بعضاً، عادوا إلى الصف وأخذوا درس ديانة «كيف أصلي»، ولأن اليوم هو الثلاثاء، فقد انصرفوا مبكرين، يعني خمس حصص.
انطلقوا في الشوارع، يصرخون بـ «هيه»، كذلك انطلق عدنان إلى بيتهم يقود الغصن الذي تركه عند الصباح ويحمل حقيبته على ظهره، ريثما تعد الأم الطعام، قال عدنان: أكتب وظيفة القراءة، وفعلاً أخرج كتاب القراءة، ودفتره، وراح يبحث عن القلم، وحين نفد صبره في البحث، قال: لقد سُرقت، أعتقد أنهم سرقوا القلم «التروبن»، وانتظر مرور النهار والليل حتى اليوم التالي، لم يخبر والده بالأمر، لم يخبر والدته، لم يخبر أحداً في البيت. في اليوم التالي نسي عدنان أن يفطر، نسي أن يلعب في الطريق، كان يسير غاضباً إلى المدرسة.. وما إن انتهت تحية العلم، وانتظم التلاميذ وراء بعضهم، ووصلوا إلى الصف، وصرخ أحد الطلاب قيام، ما إن سمع، كلمة استريحوا يا أبنائي، حتى قال: لقد سُرقت يا أستاذ، البارحة سُرق قلمي، وهنا ساد صمت بليغ، قال الأستاذ: ماذا تقول يا عدنان؟ أقول: لقد سرقوا قلمي البارحة، وهو من ماركة «تروبن».
كان على الأستاذ أن يوجه كلمة إلى تلاميذه، تتعلق بالسرقة وأنها لا تنفع صاحبها، واظهر وبان عليك الأمان، وسوف نفتش الصف، وفعلاً طلب الأستاذ من التلاميذ أن يخرجوا ما في دروجهم إلى الأعلى، ثم قام بتفتيش الدروج والكتب والتلاميذ، يتبعه المناوب الداخلي والمناوب الخارجي، وعندما لم يجد شيئاً، قال لعدنان: اذهب واشرح قصتك للمدير.
ذهب عدنان برفقة المناوب إلى غرفة المدير، وبعد أن ضربا برجليهما الأرض وقدما نفسيهما، قال المناوب: أستاذ هذا التلميذ، فقد قلمه في الصف.
كان المدير يكتب فوق الطاولة، خلع نظارته، وقال للتلميذ، ماذا تقول، فقال التلميذ: لقد فقد، وهنا قاطعه المدير وطلب من التلميذ عدنان أن يكمل بقية الجملة، فقال عدنان: نعم يا أستاذ، أبي أشترى لي قلماً ماركة «تروبن» وحين جئت به إلى المدرسة سُرق القلم، قال المدير: يجوز نسيته في البيت، قال عدنان: فتشت عنه كل أرجاء البيت، فلم أجده. أنت في أي صف، قال المدير. أنا في الثالث رابعة، قال عدنان. تعال معي، قال المدير.
وصل الثلاثة إلى الصف، دخل المدير أولاً، ثم تبعه الاثنان، صرخ الأستاذ بصوت قوي «قيام» فقام بقية الصف، فقال المدير «جلوس» وعندها أمر أحد الطلاب بالخروج إليه، فخرج الطالب مذعوراً، أنت ما هو اسمك؟
جمعة الجاسم
أين قلم الطالب؟
لم آخذه يا أستاذ
يا كلب،
وصفعه المدير على وجهه، وحين أقسم الطالب أنه لم ير القلم، ولا سمع عنه، قال المدير وهو يصفعه مرّة أخرى «ارفعوه».
تكوّم عليه عدّة تلاميذ طوال الجثة، عراض المنكبين، لكن المدير أمر اثنين منهما بأن يسندا الكرسي، ففعلا، وأمر التلميذ جمعة الجاسم أن يجلس عليه، وبين الدموع والرجاء والقسم، جلس التلميذ على الكرسي، فأمالاه إلى الخلف، طلب المدير من التلميذ جمعة الجاسم أن يخلع حذاءه، أيضاً بين البكاء والقسم بأنه لم ير شيئاً. واحد من التلاميذ نزل يريد أن يخلع حذاءه، خلع حذاءه، وظهرت الجوارب الممزقة، وبدأ المدير الرقع بالعصا على رجليه.
واضح أن المدير قد تعب، فقرر أن يستريح وخلال ذلك، قال: تريد أن تخرجني عن ديني، ولك إذا ما جلبت القلم، لأكسر رجليك، هذه مدرسة، وليست ماخور بقر، سوف أجعل منك فرجة لمن يعتبر، ستكون نهايتك بتحية العلم.. ارفعوه.
عاود التلميذان رفعه، أو إمالة الكرسي، وانطلق المدير يقرع الرجلين بالعصا، ما إن وصل العدّ إلى سبعة عشر حتى قال التلميذ جمعة الجاسم، بأنه أخذ القلم، توقف المدير عن الضرب، وقال: قل سرقته، التلميذ لم يعطك إياه، وماذا فعلت به،
بعته يا أستاذ، بعته.
وأين ثمنه؟
لقد صرفته، يا أستاذ.
على ملذاتك الشخصية، يا كلب.
وناوله صفعة على خده خلال ذلك، وقد صرخ على التلميذ عدنان،
وأنت ما اسمك؟
عدنان
هل تسامحه يا عدنان، على فعلته، بشرط أن يقول إنني لن أعيدها مرّة ثانية.
أقسم إنني لن أعيدها.
سامحته أستاذ.
وقد خرج المدير من الصف، مودّعاً بـ «قيام» قوية، خرجت من فم المدرس، فوقف لها التلاميذ استعداداً.