وذلك لأن كتابة أمير الشعراء للمسرح قد كانت من العوامل الحاسمة في القضاء على نظرة الريبة والشك التي كانت الطبقات المحافظة تنظر بها إلى فن التمثيل الذي وفد إلينا من أوروبا، وظل المحافظون وهم غالبية الأمة ينظرون إليه بنفور وباحتكار، خلال عشرات السنين التي كان الصراع لا يزال ناشباً فيها بين المحافظين التقليديين والمجددين الداعين إلى الأخذ من الغرب، ذلك لأن القدماء لم يعرفوا فن التمثيل، وإن الشعوب العربية في العصور الوسطى والحديثة إذا كانت قد عرفت بعض الفنون الشعبية التي تشبه من بعيد أو من قريب فن التمثيل المسرحي، كالأراجوز، وخيال الظل، فإن هذه الفنون ليست هي التي تطورت فأصبحت فن التمثيل الحديث. ومن الثابت تاريخياً أننا قد أخذنا هذا الفن عن أوروبا بل باستطاعتنا أن نحدد على وجه الدقة بدء ظهور فن التمثيل العربي في بلادنا العربية سنة 1848 عندما ابتدأ الأديب اللبناني «مارون النقاش» يؤلف بعض المسرحيات ويلحنها ويمثلها في بيئة بيروت مع عدد من أصدقائه الهواة وأمام نخبة من علية القوم على نحو ما يحدثنا في مقدمة كتابه «أرزة لبنان» الذي يضم مسرحياته الثلاث.
وإذا كان متى بن يونس، قد ترجم في العصر العباسي كتاب الشعر لأرسطو وفيه حديث عن فني التراجيديا والكوميديا، فإن المترجم نفسه لم يفهم مما ترجم شيئاً بدليل ترجمته تراجيديا بفن المديح وكلمة كوميديا بفن الهجاء، وقد أوقعت هذه الترجمة الخاطفة كبار فلاسفة العرب في حيرة وفي نفس الخطأ؛ حيث نجد فيلسوفاً «كابن رشد» يبحث في مدائح العرب عن أبيات يظنها من نوع التراجيديا، وفي الهجاء عن أبيات يظنها من نوع الكوميديا. كما أننا لم نعثر على أية ترجمة أو تلخيصاً أو تحليلاً لأية مسرحية إغريقية قديمة بين ما خلف لنا العرب القدماء من تراث مترجم، وهذا أمر يسهل فهمه لشدة ارتباط المسرح الإغريقي القديم بالوثنية الإغريقية وأساطيرها التي تتعارض مع القيم العربية.
وإذا كان عدد من الأدباء قد كتب مسرحيات شعرية وزجلية ونثرية للفرق التمثيلية المختلفة التي انتشرت في عالمنا العربي منذ «مارون النقاش» حتى سنة 1947 فإنه وجد أدب تمثيلي عربي يطبع وينتشر ويعاد طبعه ويدخل الجامعات والمعاهد والمدارس فكتب أحمد شوقي مسرحياته الخالدة «مصرع كليوبترا» و»علي بيك الكبير» و»فمبيز» و»مجنون ليلى» و»عنترة» و»أميرة الأندلس» كوميديا «الست هدى».
الشعر التمثيلي
كان يدور نقاش طويل حول الشعر وصلاحياته أو عدم صلاحيته للتأليف المسرحي. وعندما أخذ أحمد شوقي في تأليف مسرحياته ارتفعت أصوات عدة بأن شوقي الشاعر الغنائي قد أقحم نفسه على مجال لم يعد من مجالات الشعر، وهذه قضية تستحق النظر، فرغم أن الأدب المسرحي قد نشأ شعراً عند اليونان القدماء واستمر شعراً عند جميع الكلاسيكيين ثم عند عدد كبير من الرومانتكيين بل وعند بعض المحدثين والمعاصرين مثل رومان رولان، وإليوت، إلا أن الجدل لا يزال قائماً حول صلاحية الشعر للأدب المسرحي بعد أن طغى عليه النثر حتى كاد أن يغرقه، وبخاصة بعد احتلال القصص النثرية مكان الصدارة في جميع الآداب وتقهقر الشعر حتى الغنائي منه، ونحن لا نريد استقصاء جميع النظريات التي تدور حول الشعر والنثر والمقارنة بينهما، وإنما نكتفي بما قاله «بول فاليري» في الكوليج دي فرانس في باريس عرض هذا الشاعر العظيم نظرية تشبه النثر بالمشي والشعر بالرقص. وهذه النظرية وإن تكن وثيقة الصلة بالمذهب الرمزي الذي يدين به هذا الشاعر الذي يعلق على موسيقى الشعر وقفاته الإيحائية الأهمية الأولى، إلا أنها مع ذلك تصدق إلى حد بعيد على معظم أنواع الشعر وأنواع النثر. فالنثر بوجه عام يسير بهدف هو التعبير من مكنون الفكر إحساس القلب وهو لذلك وسيلة لا غاية:
شيعت أحلامي بقلب باكي/ ولملمت من طرق الملاح شباكي
ورجعت أدراج الشباب وورده/ أمشي مكانهما على الأشواك
في عام 1903 أصدر شوقي ديوانه، وهنا نحس أنه لم يجد من الخديوي عباس تشجيعاً لمسيرته الشعرية لأن الخديوي يريد أن يتلقى من شوقي مديحاً له، ثم سافر إلى فرنسا وهناك كانت له قصيدة في مدح المرأة.
خدعوها بقولهم حسناء/ والغواني يغرهن الثناء
شوقي والتاريخ
وكما جارى شوقي الكلاسيكيين الفرنسيين في اختبار الشعر أداة لتأليفه المسرحي فيما عدا مسرحية «أميرة الأندلس» التي كتبها نثراً، نراه يجاريهم أيضاً في اختيار موضوعات لمسرحياته من التاريخ، وذلك فيما عدا كوميديا «الست هدى» التي صدر فيها جانباً من حياتنا الاجتماعية المعاصرة في حي الحنفي بقسم السيدة زينب بالقاهرة، ولقد يرد الشاعر الفرنسي الكبير «كورين» اختيار التاريخ مصدره للمسرحيات الكلاسيكية بقوله «إن الحوادث الروائية حتى التي تعتبر في نظر العقل المجرد خارقة لا يلبث أن يألفها العقل ويستسيغها عندما تقدم إليه كحوادث تاريخية وقعت بالفعل»، ولكن أحمد شوقي لم يلجأ للتاريخ المصري والفرعوني لنفس السبب الفني الذي ذكره «كورين»، بل لجأ إليه فيما يقول لإظهار بعض نواحي العظمة في تاريخنا القومي. وهو هدف يمكن مناقشة الشاعر في مدى توفيقه في خدمته باختيار الفترات التاريخية أو الأحداث التي تصلح لتحقيقه، كما يمكن مناقشته في مدى توفيقه في إبراز هذا الهدف وتحقيقه.
أما عن موقف شوقي من أحداث التاريخ التي عالجها ومدى تقييده أو خروجه عليها فإن لكل ما وجه لشوقي من نقد في هذا الصدد ومقارنته بغيره من الكتاب العالميين الذين كتبوا القصص والمسرحيات التاريخية، فقد أثبتت أن شوقي لم يتخط في شتى الحدود المتفق عليها بين النقاد في حق تصرف الأدب في حقائق التاريخ.
شوقي والفن والدراما
أما عن الفن والدراما عند شوقي ومدى تملكه لناحية هذا الفن، ففيه متسع للنقد وأن يكون هذا النقد، مهما اتسع مجاله، لا يمكن أن ينال من فضل شوقي الرائد لهذا الشعر التمثيلي الجديد. وعلى أي حال تأكيد نقد يوجه إلى مسرحياته هو طغيان النزعة الغنائية على الكثير من مسرحياته حيث نرى الحوار ينقلب أحياناً إلى مجموعة من القصائد التي ينشد كلاً منها أحد الممثلين مما يعتبر خارجاً على طبيعة الحوار المسرحي الذي يجب أن تتوفر فيه الحركة الدرامية المتدفقة، فإن علاج هذا العيب هو ما ذكرته من وجوب تلحين هذه المسرحيات وتقديمها للجمهور «كأوبرات» يتمتع فيها بروعة الشعر وجماله وقد زادتهما الموسيقى قوة وتأثيراً وأصبح الطابع الغنائي فضلاً في هذه المسرحيات لا عيباً ينتقص من قيمتها الأدبية الخالدة.
نفهم من كل هذا أن شوقي في جودة لوحاته إذا أراد أن يرسم الأشياء كما هي وكما تبدو إزاءه وإزاء الآخرين ومن هذا أنه لا يجيد إذا أراد أن يصور الحاضر والقريب حتى إذا أصبح الحاضر ماضياً والقريب بعيداً أجادوا حسن ووهب الصورة حياة وقوة يهبها من نفسه وشخصه، فهو يقول:
ولد الهدى فالكائنات ضياء/ وفم الزمان تبسم وثناء
كتبت أسامي الرسل فهي صحيفة/ في اللوح رأسهم محمد طفراء
وقوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومهما تتعدد الآراء والأذواق في النظر إلى شعر النماذج فلا بد له من صفحة باقية في كل أدب وكل لغة، وصفحته الباقية في اللغة العربية مقرونة باسم شوقي في الأدب الحديث، يجد ذكراها ويقوم عليها حقه في البقاء ويتردد حوله صوته وصداه، وكما قال الشاعر بحقه.
إيه شوقي لو كان للشعر رب/ جعلتك الأذواق للشعر ربا
شاعر العرب كان شعرك حينا/ كنسيم الصبا وحينا عضا