تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


النص ككائن حي

ملحق ثقافي
2012/9/4
د. بهيجة مصري إدلبي:النص الإبداعي أياً كان انتماؤه في دائرة التجنيس الأدبي، هو تأويل لنزعة الخلق لدى المبدع، ومنطقة الخلق الإبداعي هي المنطقة الأكثر غموضاً فيه، والأكثر اتصالاً بحيوية الوجود، وجدله داخل الكائن المبدع.

لأنها المنطقة التي تتيح للمبدع الإصغاء إلى هاتف الإبداع في ذاته، حيث التخلق لمضغة الفكرة، حتى تستوي نصاً.‏

ومن هنا كان النص ـ كما يشير المعطى الإبداعي، والدرس النقدي، والتجارب الإنسانية ـ كائناً حياً، لأنه نتاج لتأويل الفكرة في منطقة الخلق، وبالتالي يصبح التعامل مع هذا الكائن الحي تعاملاً متصلاً بحيويته، ومتصلاً بالمنطقة ذاتها التي تؤول الفكرة إلى خلق جديد.‏

وهذا ما سعت وتسعى إليه نظريات القراءة والتلقي عبر تاريخها الجدلي، منذ أن كانت في أبسط صياغاتها، إلى أعقد تلك الصياغات التي جاءت بها البنيوية والسيميائية والتفكيكية، وما بعد ذلك من نظريات مازالت تحاول الكشف عن دينامية النص الإبداعي، وعن أسراره، وحراكه في التجربة المعرفية للمبدع.‏

لذلك أصبح النقد مشكلاً أكثر جدلاً في تناوله لأي نص إبداعي، لا يقل عن جدل الإبداع ذاته، فلم يعد ـ كما كان يظن ـ حالة ملحقة بالإبداع، وإنما أصبح حالة تنبثق من النص الإبداعي، وهذا الانبثاق هو الذي يؤول النقد كحالة من حالات الإبداع الموازية أو المصاحبة أو المتماسة مع أنفاس النص الإبداعي.‏

ففكرة النقد الإبداعي ليست ترفاً نقدياً، وليست رغبة في مزاحمة النص على مكانته الإبداعية، وإنما هي رغبة في منح النقد حميمية أكثر في تلقيه وممارسته النقدية، ليدخل في لحظة التأمل التي تمنحه مقام الوصل مع النص.‏

ولا شك أن هذا الفهم النقدي للنص، لم يلق قبولاً من بعض النقاد، أولئك الذين يجنحون إلى أن النقد عملية تابعة للنص، متخذين منه شكلاً من أشكال الشرح والتفسير، دون البحث عن ميكانيزم العملية الإبداعية، والمناطق المتفاعلة في النص، فأصبح نقدهم كتماً لأنفاس النص وتشويها لإنبثاقاته الجمالية، وهذا الأمر دعا كل الذين توسوس لهم أنفسهم بممارسة «الكتابة»، أن يوهموا أنفسهم بأن الذي يشتغلون عليه نقداً، وممارسة نقدية، ظنا منهم أن الكتابة مهنة، يكفيها التعليم وإتقان اللغة بنحوها وصرفها، وإتقان المقاييس المدرسية للجنس الأدبي، دون أن يخالجهم الظن بأن تعلم مهنة ما قد يتاح بالدربة والممارسة، ولكن من غير المتاح ـ لمن لا يمتلك الأسرار الذاتية ـ أن يبدع في مهنته، فتتحول الكتابة لدى هؤلاء إلى نصوص ميتة لا تضيف إلى المشهد الكتابي سوى تراكم لا طائل منه، ولا فعل حقيقياً له، غير فعل التراكم الذي لا ينتج عنه غير المزيد من جثث النصوص المشوهة، والمكتومة الأنفاس الإبداعية.‏

فالنقد الإبداعي هو النقد الذي يدرك منذ البداية أنه يتعامل مع كائن حي، وهذا الكائن لا بد له من الإصغاء إليه، والكشف عن فجواته المعتمة، وعن فراغاته المتروكة، وعن العلاقات المتحاورة في داخله، حتى تصبح عملية التلقي عملية حيوية، لا تتكئ على أدوات كاد يأكلها الصدأ، وإنما على أدوات تتفاعل مع التجربة المعرفية الذاتية، ومع التجارب المعرفية الأخرى، ليتسنى للناقد الإصغاء إلى أنفاس النص، بكل ما تحمل من دفء الإبداع، والإصغاء لا يتأتى إلا لمن كانت له ملكات ذاتية شأنها شأن الملكة التي تتملك المبدع الذي أبدع النص. وبالتالي يصبح النقد إبداعاً آخر، يستعين بأداة اللغة، وأداة الخبرة، التي تشفع الموهبة النقدية، من أجل تحليل النص الإبداعي، ومعرفة أسراره، ومكامن الإبداع والجمال فيه، دون العبث بصورته التي تشكل فيها، أو خلخلة الرؤية التي استوى عليها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية