لا يقتصر التطور عندهم على أشياء دون غيرها أو في مجال دون آخر؛ إذ لا يعقل أن يتم التغيير والتجديد في الملبس والمأكل والمشرب وطرق العيش الأخرى، دون أن يرافق هذا تطور في شؤون الحياة العقلية والفنية، ومما يدعو للدهشة والعجب، قبول تطور في مجال ورفضه في مجال آخر؟
وخاصة في مجال التعبير عن هذه المسيرة وتحولاتها في الحكاية والمسرح والشعر، لقد تم تطور ملحوظ عليها جميعاً يمكن لأي مهتم أن يلمسه من عصر إلى عصر حتى يومنا هذا، وهذا منطق سليم، إذ من المستحيل أن يجمد التعبير ويتوقف عند عصر، تستمر شؤون الحياة الأخرى في تبدلها؟ هل ينبغي أن يبقى الشعر كما هو شكلاً ومضموناً كما كان في العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
لماذا يحاول البعض أن يحظر على الشعراء أن يطوروا نصوصهم وينتقلوا إلى شكل آخر جديد، بحجة المحافظة على الموسيقى الخلابة والإيقاع الجميل المألوف والانسجام مع منظومة شعرية عربية جميلة متوارثة، وهي غير مقدسة بالضرورة، فالوزن والقافية وبحور الخليل ليست كتاباً منزلاً. ألم يسأل هؤلاء الملتزمون بهذا التقليد الشعري المتوارث أنفسهم لماذا نسمح لكل شيء في حياتنا أن يتبدل ويتغير ونحرم ذلك على القصيدة العربية؟
إن لكل شكل شعري جماليته الخاصة، فكما نستمتع بقراءة محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي، إلا أننا ما نزال نستمتع لدى قراءتنا للمتنبي والمعري وامرىء القيس وعمرو بن كلثوم وعنترة من شعراء العصور السابقة، ونستمتع أيضاً بقراءة الشعر المترجم لبودلير ورامبو، وإيليوت، ومايكوفسكي. إن ما يسعى إليه الشعراء قدماء ومحدثين هو «الجمع بين رقاب المتنافرات» كما يقول الجرجاني أي التعبير الصريح عن العصر الذي يعيشون فيه وتناقضاته عن جماله وقبحه وشره وخيره، وعن تصارع البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فيه وهي تتداخل وتتنابذ.
وقد حاول الشعراء أن يعبروا عن هذا قديماً وحديثاً بأشكال غير مألوفة، خارجين على ما سبق إلى ما لا نهاية، للرصد أو التعبير عن حساسيات جديدة بأساليب شعرية مبتكرة، وهكذا تنقرض أساليب وقصائد وأجيال وتولد أخرى «وتبقى نار الشعر خالدة».
وهذا ينطبق على ما قاله جلال الدين الرومي تعليقاً على الشعراء وهو واحد من أعلامهم والخارجين على المألوف في الشعر يقول عن الشعراء: «يحاولون دائماً أن يعبروا إلى الجهة الأخرى للكلام»، بغض النظر عن الشكل الذي يتبعونه ويستسيغون التعامل معه.
وإذا كانت القصيدة الجديدة في عصرنا وقصيدة النثر بشكل خاص قد خرجت على البنية الإيقاعية السابقة والنظام العام السابق للشعر، فهي سارت على قاعدة التطور ولم تكن شذوذاً كما يدعي البعض، ولم تكن سعياً للفتنة، أو أسلوباً للتخريب. وهي وإن وصمت بالقصيدة المارقة أو الملعونة والفضيحة «إلا أنها كتبت وما تزال تكتب وتنتشر وتستشري ولم لا».
إن قصيدة النثر هي إيغال في جماليات اللغة، ولغتها هي لغة مغايرة للمعتاد والمألوف؛ فهي لغة مثيرة في سحر إيقاعها، وتناغم هذا الإيقاع مع الصور والمعاني، صحيح أنها تخلصت من التفعيلة والقافية، إلا أنها بالمقابل اتجهت إلى اللغة المدهشة والاحتفاء باليومي العابر، والتفاصيل الحياتية، ودقائق الأمور وجزئياتها، واستنباط الصور التي لم تألفها ذهنية المتلقي، ومخيلته، أقصد المتلقي التقليدي، الذي تربى وترعرع على ذائقة كلاسيكية طيلة حياته التعليمية، ووسطه الاجتماعي.
إن قصيدة النثر تعتمد في الأساس على تكثيف الصورة، وتناسق اللغة بمفرداتها وجملها واعتبارها بديلاً من الإيقاع في الوزن والقافية. ولقد استطاعت هذه القصيدة بلغتها الجديدة وصورها وتناسقها وحداثتها المعهودة، أن تخلخل التابو، وتكسر الخواء، في فضاء النص، من خلال الغرائبية في الشكل، وإنشاء بنى مجاورة لفضاءات النص، إنها ثورة واضحة على الخطاب التقليدي والمألوف، الذي هيمن طويلاً، حيث فتحت المجال أمام الخلق والابتكار في اللغة والصورة، ومزجت بين الواقعي والخيالي، واليومي والأسطوري، وأثارت الكثير من الأسئلة الملحة والمهمة، مع اهتمام بالغ بالحمولة الشعرية المعرفية من خلال هذه الأسئلة التي تصدم عقل المتلقي، والذي تعتبره شريكاً فاعلاً في صياغته الأفكار والمشاهد والصور التي تسهم في ارتقاء النص، هذا النص الذي يحاول ملامسة الجوهر الإنساني، الذي يبحث عن المتعة والمعرفة والخلاص، والتأكيد على أن الإنسان بحاجة إلى الآخر فكراً وروحاً، ولأن حياة الإنسان سلسلة من الاعترافات والهواجس، والتداعيات، والخوف، فلا بد أن ننتصر له، ونسعفه في البحث عن مشاريع نهضوية، ترتقي بذائقته وفكره، وتفتح له آفاقاً جديدة على طريق التطور والتحديث وتشق له درب الحداثة، ليطوي إلى غير رجعة أوشحة الظلام والتقليد.
هذه القصيدة الحديثة ترسم معالم أفق مفتوح على الحرية وحق التجربة والرفض، وحق التجريد. وهي إذ تتفجر بنيتها الإيقاعية، فإن لهذا أسباب عديدة أهمها الخروج على الرتابة والتكرار ومواكبة ما يحصل من تغيير على العالم.
وقد تنبأت عرافة الشعر العربي نازك الملائكة بالتغيير الذي سيحصل للشعر العربي منذ أواسط القرن الماضي عندما قالت:
«لن يبقى من الأساليب القديمة شيء، فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعاً».
إن قصيدة النثر العربية قد ترسخ وجودها في الثقافة العربية وفي مزرعة الشعر العربي وعلى بيادره، وأثبتت وجودها وقبولها على المنابر الثقافية والإعلامية، ولم تعد اليوم موضوع السؤال حول حقيقتها وحقها في الوجود كنمط من أنماط الشعرية العربية، لاسيما وأنه بات لها تراكم كمي ونوعي منحها هذه الشرعية في الوجود. وقد قبلتها الذائقة العربية على الرغم من العراقيل التي وضعت أمامها، والجدران التي نُصبت في وجهها، وما عاد من حق المناهج التعليمية أن تستمر في حجبها نزولاً عند بعض من تحجرت ذائقتهم وأعماهم التعصب للعصور السابقة، ورفضوا سنة التطور ونسوا أن القصيدة الأجد هي خروج عن جديد سبقها بأساليب مبتكرة إلى ما لا يعد ولا يحصى. وأن هذه القصيدة لها أصلها في تراثنا العربي، ولا ينكر هذا كل من قرأ أبا حيان التوحيدي والنفري وسواهما كثير.