وتشكل حالة الصرع العربي-الإسرائيلي أكبر المفاصل المؤلمة في التاريخ العربي المعاصر والتي نشأت كنتيجة طبيعية لمواجهة محاولات إخضاع الأمة والسيطرة على ثرواتها, فقد ظهرت على السطح الإعلامي - العولمي عناصر إعلامية عربية متبنية أفكاراً تصطدم مع ما تشكل عليه الوعي الوطني والقومي, لتبث سمومها عبر مساحات فضائية إعلامية مبرمجة, ما يشكل خطورة على منظومة القيم العربية الإنسانية المتوارثة في مواجهة حالات الغزو والانتداب والاحتلال الاستعماري عبر التاريخ العربي وخصوصاً على مدى عقود القرن العشرين.
الباحث بلال الحسن من خلال كتابه (ثقافة الاستسلام) الصادر عن دار الريس في لندن سنة /2005/ رصد هذه الظاهرة الغريبة عن الحياة العربية وقام بتعرية أفكار ومضامين أبحاث ودراسات ومقالات لعدد من الكتاب الذين عايشهم وعاصرهم في عدة منابر ومنتديات إعلامية مسموعة ومقروءة ومرئية وأبرزهم:
كنعان مكية, حازم صاغية, صالح بشير, عفيف الأخضر, الذين نشروا على مدى أعوام خمسة دراسات ومقالات تتعلق بمجريات وآفاق الصراع العربي-الصهيوني ومستويات العلاقات العربية الأميركية.
يضم الكتاب بعد المدخل التوضيحي ستة فصول خصص كل منها لواحد من هؤلاء المطبعين حسب دخولهم المسرح الإعلامي, وقد حاول الكتاب في كل فصل فضح الأساليب التي تعمل على تشويه مفهوم الاستشهاد والتيئيس من جدوى الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية, والترويج لمفاهيم التطبيع ومحاولات تشكيل رؤى واتجاهات وميول تستهدف تسميم الوعي من خلال عدم التفريق بين الجلاد والضحية بذريعة تزايد عدد الشهداء.
ويرى الكتاب أن كنعان مكية المثال النموذجي للمثقف الذي انسلخ عن قضيته الوطنية المحلية والقومية بمعناها الأشمل وقد تدرج في مراكز بحثية لها آراء سياسية وأغراض عسكرية واقتصادية وثقافية في الدول العربية, مذكراً أنه باحث في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد في مدينة بوسطن وفي جامعة برانديس في بوسطن أيضاً, والتي تعمل تحت رعاية يهودية (انظر في 22-23) إضافة إلى أنه منح الدكتوراه الفخرية من جامعة تل أبيب لقاء خدماته المادية والاعتبارية (ص 25) وتدعو آراء كنعان مكية إلى صيرورة عراقية بدون العروبة, أي قيام عراق غير عربي منعزل عن محيطه الطبيعي تصفية لدوره المحوري في عمليات الصراع العربي-الإسرائيلي على امتداد أكثر من نصف قرن من الزمان, وبدعوته لضرورة التخلي عن ايديولوجية القومية العربية يستهدف كنعان ضرب آمال الأمة ومساعيها لتحقيق الوحدة العربية أو التضامن العربي, وذلك لإفساح المجال لقبول (إسرائيل) على أنها واقع راهن حتمي في الجغرافيا السياسية للمنطقة, والتطلع إلى مستقبل المنطقة بكاملها بعيون إسرائيلية, والدعوة بناءً على هذا التقويض لمفهوم الوحدة العربية إلى إنشاء كيانات فيديرالية إثنية ومذهبية في العراق لتشكل نموذجاً مدمراً بكيانات عربية أخرى يفسح المجال أيضاً أمام الحلم التوراتي الخرافي بإيجاد أنظمة تتفق مع أطماع (إسرائيل) وأميركا بهدف السيطرة على ثرواتنا, وبالتالي جعلها سوقاً لسلعها وبضائعها.
كذلك تصدى المؤلف بلال الحسن لمضامين مقالات مشتركة لحازم صاغية, وصالح بشير يدعيان فيها أنهما يقدمان حلولاً عملية واقعية لمجمل قضايا المنطقة والصراع العربي-الإسرائيلي, ومن هذه الحلول مثلاً:
ضرورة جعل الأسبقية للتطبيع على السلام الفعلي بذريعة أن (إسرائيل) هي التي تملك القوة الهجومية القادرة والمسيطرة على أجواء ومنابع المنطقة العربية, والعرب لا يملكون الحد الأدنى من القوة الدفاعية لمواجهتها, وليس لدى العرب من خيار سوى قبول التطبيع المسبق طويل الأمد, بهدف اختبار (إسرائيل) لإمكانية إنجاز عمليات التطبيع على كل المستويات, تمهيداً لمفاوضات مبدئية حول إقامة السلام.
ويضيف بلال حسن: إن التبشير بالحداثة لدى حازم صاغية وصالح بشير تعني لديهما التماهي مع سياسات أميركا والغرب, ويكون ذلك باعتبار (إسرائيل) هي الممثلة للغرب في منطقتنا العربية, والتعبير عن ذلك يتم طبقاً لهما بالعزوف عن فكرة مواجهة ومكافحة الأطماع الإسرائيلية التوسعية وليس هذا فحسب, بل أيضاً طمأنة إسرائيل على هواجسها الأمنية, وهذا يقتضي من المثقفين العرب برأي صاغية وبشير تفهم أن ما تقوم به (إسرائيل) من تقطيع وتجريف للأراضي الفلسطينية ليس له أي أهمية جغرافية أمام السلام الإسرائيلي الموعود, ويسوغ صاغية وبشير مفهومهما هذا بما يسميانه ضرورة (حتى لا نبقى خارج الحداثة).
ويكشف الباحث بلال الحسن في قراءته النقدية كيف تتم عملية تشويه المفاهيم عن الأرض والقضية عندما يدعي صاغية أن المثقفين العرب مأخوذون بمفهوم خرافي عن الجغرافيا يدعي (أن التاريخ يولد من الجغرافيا في حين أن العنصر الجغرافي ليس العنصر الحاكم للتاريخ بل هو على العكس متضائل الأهمية).
ويدعو صاغية بضرورة إبعاد اللاجئين الفلسطينيين عن أي مستوى من التعامل مع القضية الفلسطينية بذريعة أنهم عبء وعالة على تلك القضية ويسوغ طرحه هذا بعدم تحمل (إسرائيل) لعواقب تهجير اللاجئين من فلسطين سنة /1948/ ليطرح الحل بتوطينهم حيث هم.
هذا يعني إسقاط حق العودة ومترتباته الشرعية والوطنية والدولية وفق قرار الأمم المتحدة رقم /194/ حول حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض, ونفهم من التعويض هنا حقوق الفلسطينيين المترتبة على استغلال واستنزاف أراضيهم وممتلكاتهم منذ عام /1948/.
ويواصل بلال الحسن قراءته النقدية لفكرة التنازل عن حق العودة لدى العفيف الأخضر في مقالته: (تكلموا مع اللاجئين بلغة الحقيقة), والتي يهاجم فيها الأخضر المواقف العربية والفلسطينية المتمسكة بعودة اللاجئين, ويصف هذه المواقف (بالجمود الذهني للفكر السياسي العربي الذي يتجلى في هوس الرفض لك حل وسط) كما ادعى.
ويتنازل بكل صفاقة عن حق العودة بتوطين الفلسطينيين حيث هم في الدول العربية وتوطين جزء منهم خارج العالم العربي على نحو الاقتراح الكندي بتوطين بعض الفلسطينيين في كندا.
وهكذا فإن العفيف الأخضر يتبنى طروحات (إسرائيل) ومشاريعها لما يسمى بالتسوية ويهزأ من الحلم الفلسطيني بإقامة دولة كاملة السيادة وحلم العرب والمسلمين باسترداد الحقوق المغتصبة.
إن قراءة بلال الحسن النقدية ليست مناقشة مع أفكار اختلفت معها بل هي مناقشة لأفكار تعمل بوعي من أجل هدم عوامل الصمود الذاتي العربي في وجه الهجمات الاستعمارية الخارجية والصهيونية المحيطة بنا.. وهو بذلك يدحض الأفكار التي يوحي بها الأجنبي والمحتل والتي تمهد الطريق لقدومهما وسيطرتهما, ومن هنا كانت هذه المناقشات والمناظرات مع هؤلاء الخارجين على وطنيتهم وعروبتهم وإنسانيتهم من خلال فضح تهافتها وزيفها وبهتانها.
جاء كتاب بلال الحسن وقفة تأملية فكرية عميقة لمواجهة الدعوات المشبوهة التي تعمل لهدم تطلعاتنا في مواجهة مشاريع الغزو والسيطرة الاستعمارية وإسقاطها.