هذا الموسم... ما بين ذاكرة الجسد وما ملكت أيمانكم... قدم لنا المخرج نجدت أنزور مسلسلين من أهم الأعمال الدرامية...
ذاكرة الجسد.. ليس مجرد سيناريو كتب خصيصا لشهر رمضان..كما يحدث عادة.. هو مسلسل تعثر عدة مرات بخياراته الفنية والإخراجية إلى أن استقر أخيرا على المخرج (أنزور)...
هذا العام اختار المخرج نجدت أنزور أن يخرج مسلسلا من عالم الأدب..ليحول رواية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي ذاكرة الجسد إلى رواية متلفزة...تمكنت بلغتها الفصحى من أن تجذبنا إلى عوالم تلك الشخصيات التي تعيش تناقضاً كبيراً بين ما ناضلت لأجله وما تراه حاليا...
تبدو حركة الكاميرا في ذاكرة الجسد..مقيدة حتى وهي في باريس..حيث تعيش بعض شخصيات المسلسل..فمثلا حتى عندما نرى خالد بن طوبال يتحرك في باريس فهو يكون سجين أفكاره..وتبدو تلك المدينة وكأنها تضيق عليه وعلى معاناته..
الحركة في الجزائر أو في قسنطينة المدينة التي شكلت ذاكرة الرواية وروح المسلسل يبدو أبطالها رغم معاناتهم أكثر حيوية..يبدو حنو مدينتهم هو المهم بغض النظر عن تلك الشخصيات الفاسدة التي تنشر الفساد أينما حلت فتبدو وكأنها تشوه كل من يقترب منها..كشخصية (سي مصطفى)...التي تمكن من أن يثير فينا الحنق كلما ظهر ورأينا كل هذا الخبث في تصرفاته..
هنا يحيلنا أنزور إلى خياراته فيما يتعلق بالتمثيل.. فإذا كان يحرك زوايا الكاميرا لتتوافق مع انفعالات الشخصيات ومعاناتها تارة ومع الروح الكلية للعمل..فان خياراته التمثيلية لاتقل نجاحاً عن خياراته فيما يتعلق بالصورة.. فمن ذا الذي بإمكانه أن يجسد كل هذا العمق... في الأداء سوى الفنان جمال سليمان الذي جعلنا نتناغم معه في الأداء ما بين العاشق الولهان في بداية المسلسل ثم المفجوع،ثم العابث الباحث عن حالة لن يجدها ثانية..
إن كان أنزور قد راهن على قدرة جمال سليمان الأدائية المعروفة لدى المشهدين..إلا انه كعادته كان جريئا في إدخال وجوه جديدة إلى أعماله وهو أمر قام به في أعمال عديدة.. هنا اكتشف (أمل بوشوشة) التي لم تبد أبدا أنها جديدة في عالم التمثيل، ويبدو أن حنكة المخرج قد تمكنت من إدارة هذا الوجه الجيد..كما تمكن من إدارة مختلف ممثليه..
مشاهد مسلسل (ذاكرة الجسد) يمكن تقسيمه إلى نوعين الأول: ذاك الذي قرأ الرواية ويحاول أن يرى كيف سيتمكن أنزور من اللعب بصرياً على أفكار الرواية التي توافق معها أو ربما رفضها...
المسلسل الثاني الذي اختار أنزور تقديمه حمل عنوان (ماملكت أيمانكم) هنا اختار أنزور الدخول في موضوع إشكالي..ربما كان يتوقع أن يثير هذا الجدل..ما بين معارض ومؤيد...اختار التطرف ببعديه الديني والأخلاقي...
يقدم النموذجين دون تجميل بشكلهما الواقعي..المؤلم.. ومن هنا ربما كان كل هذا الحنق والرفض للمسلسل.. البعض لايريد أن يرى صورته، وان رآها يريدها أن تبدو جميلة كما يراها (هو).. هكذا يبدو أن ماتعكسه شاشة أنزور يخلخل تلك القناعات الهشة المبنية على مصالح بعيدا عن روحية أو جدية أو عمق أي قيم كان مجتمعنا فيما مضى يتمتع ويفخر بها..
أنزور في ما ملكت أيمانكم لايحاول أن يدين تلك الشخصيات على العكس في أحيان كثيرة يجعلنا نتفاعل معها لنفهم دوافعها والعقلية التي صاغتها، الأمر الذي يعيننا على معالجتها...
لعل ابرز ما يمكن الحديث عنه عن مدرسة نجدت أنزور الإخراجية..انه لايقدم أعمالاً لمجرد التسلية.. وإذا عدنا لنتذكر أعماله خلال السنوات السابقة فإننا لن نعثر بينها إلا على أعمال تحمل مضامين مهمة (سقف العالم، الحور العين، رجال الحسم..)
أنزور الذي حرك الدراما السورية وجدد مدارسها الإخراجية حين اقتحم عالم الصورة بزخمه المشهود لها، فإنه يحاول أن يكرس لدى المشاهد المنمط..بعدا جديدا للمشاهدة يتعلق بكل ما له علاقة بإحياء روح الكلمة وتعميقها بصريا بحيث تبدو روحا حقيقية تحاكي طزاجة مشكلات آنية من المهم خرق الطريقة البليدة التي تقدم بها، وخرق موضوعات تطل علنياً كل عام برتابتها المعهودة حتى إننا.. بتنا نحفظ حكاياها ونتوقع نهاياتها ومع ذلك يتم تكريسها لتنمط فكرا ومجتمعا بأكمله بعيداً عن أي فكر تنويري..