تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


فلسفة المحبة المحبة هي الجاذبية التي توحد الأجزاء في الكل- الواحد

ملحق ثقافي
7/3/2006م
نمرة اليازجي

يجدر بنا، قبل أن نتعمق في فهم موضوعنا هذا، أن نقيم علاقة بين المحبة والمعرفة، بين المعرفة والفضيلة فنسميها محبة المعرفة، بين المعرفة والحرية،وبين المحبة والحب. وأعتقد أن بحثنا لمحبة المعرفة لايُجدي إن كنّا نجهل حقيقة المعرفة. وهكذا، نسأل: ماهي المعرفة؟

في هذا المنظور، نعلم أن الإنسان جوهر قائم بذاته، يُبدع المعرفة إذ يدرك أنها ضرورة كونية. وعلى هذا الأساس، لايستطيع الإنسان أن يبدع ما لم يكن محباً،لذا ،كانت المحبة القوة الدافعة باتجاه المعرفة والفاعلة في أساس الوجود.. هي الطاقة التي تتحرك فينا لنعرف. ونحن، لانفهم الوجود ما لم نكن نحب الوجود؛ وأجسادنا لاتتعاطف مع الحياة ما لم تكن تحب الحياة؛ والأم لاتحمل طفلها في أحشائها، وتعتني به ،وتنشئه وتعلّمه، وترشده وتتحمل الصعوبات والآلام ما لم تكن تحبّه؛ وأرواحنا لاتقطن أبداننا لو لم تكن المحبة هي اللحمة الموحدة بينهما؛ والحقيقة السامية لاتُبدع العالم لو لم تكن تحب العالم ،ولاتبدع الإنسان على صورتها ومثالها لو لم تكن تحبه. إذن، فالمحبة هي الرباط القوي الذي يجذب عناصر الوجود لبعضها. وكما نعتقد أن الذرات المادية والمونادات الروحية تنسجم مع بعضها، وتدور حول بعضها، وتتعاطف وتتجاذب بفعل ماهية المحبة التي تسمّى الجاذبية في لغة العلم.. والجاذبية هي تعاطف وانسجام ولقاء في وجود يحيا في المحبة. فالإنسان لايحب الحقيقة لو أنه لاينجذب إليها؛ ولايحب الجمال الأسنى لو أنه لايتعاطف معه؛ ولايحب الخير لو أنه لاينسجم معه؛ ولايحب المعرفة لو لم تكن نداء داخلياً يدعوه إلى تحقيق الغاية المضمونه في وجوده، وأعني لو لم يكن هناك تجاذب وتعاطف بينه وبين نفسه، بينه وبين الوجود، بينه وبين الحقيقة الكونية وذلك لكي يعلم سرّ وجوده ويعاين الجوهر المستتر ببصيرة مشرقة؛ ولايقوم بواجبه لو لم يكن يحب عمله ولو لم يكن يعلم أن كل ما في الكون يعمل لغاية؛ ولا يبدع لو لم يكن يحب خلق المثال،وكشف السرّ وإدراك العمق في الطبيعة والوجود والكون؛ ولايكون عقله خلاقاً لو لم يكن يحب المعرفة. وهكذا، لا يستطيع الإنسان أن يُنجز أو يحقق عملاً عظيماً من أعمال الحياة إلا بفعل المحبة. لماكانت المحبة كامنة على نحو قوة في العالم الأرضي بوجود الإنسان، فإنها السبيل الوحيد الى المعرفة وذلك لأنها الطاقة أو القدرة الفاعلة التي تنشط فيه. لذا، كانت المعرفة حصيلة محبة: محبة الإنسان للفهم والإدراك، ومحبته لسبر أغوار كيانه وبلوغ أعماق الكينونة. وبقدر ما يحب الإنسان الموضوع يبدع فيه، أي يعرفه. وبقدر ما يحب الإنسان الخير يعرفه ويحققه؛ وبقدر ما يحب الانسجام الجميل يبدعه؛ وبقدر ما يحب الصدق يطبقه؛ وبقدر ما يحب اللا نهائية ينجذب إليها ويتحد معها. وبقدر مايحب الحقيقة السامية يحيا فيها. لقد أحبت الحقيقة السامية العالم فأبدعته على نحو هو أفضل العوالم الممكنة. وأحبت الإنسان فأبدعته بأفضل تكوين ودونت في كيانه شريعتها غير المكتوبة بيد. لذا، كانت الحقيقة السامية محبة لأنها خير كامل، وجمال كامل، وحق كامل، ومعرفة كاملة، ونور كامل، وهكذا، تقودنا المحبة إلى المعرفة. فهي السبيل الذي يؤدي بأنفسنا الى حقيقتها. المحبة التي تحثنا على المعرفة طاقة تنبثق من الإنسان لتعبّر عن التعاطف القائم بين الماهية والموضوع، بين الجوهر والظاهر، إذ يستحيل أن ينشأ هذا التعاطف لو انعدم التجانس والتآلف، وفُقدت المحبة.والحق، أن الإنسان يعمل في هذا الحقل الواسع، أي الوجود، ليعرف. وكلما زادت معرفته انتصر على الدوافع اللاواعية، فيحولها الى طاقات واعية وبانية. وترفعه المعرفة الى درجات عليا في عالم الحقيقة، فيزداد إشراقه، وتكثر استنارته بفعل محبة معرفة الحقيقة. هكذا، تكون المعرفة وليدة محبة تحرر الإنسان من عبودية الجهل ليحيا في نطاق الفضيلة. ولايمكن ان تتحقق الفضيلة بدون معرفة. وكلما فتح الإنسان باباً من أبواب المعرفة قرع باباً آخر ليدخله. وكلما تفتح طاقة في الإنسان وأدركت ذاتها تحولت الى طاقة جديدة. وهكذا، يموت الإنسان العتيق، إنسان الجهل والشر، ويحيا الإنسان الجديد، إنسان المعرفة والخير..هكذا، نعرف الحق لنتحرر. المعرفة والفضيلة: لاتتحقق المعرفة المتصلة بالفضيلة إلا بفعل الإرادة. والإرادة هي خلاصة تفكير الإنسان في الموضوع الخارجي والداخلي.. هي حصيلة العقل الواعي الذي ينشد العقلانية المتسامية، المتجهة الى خير الإنسان. والحق، أن عقل الإنسان أو فكره لايتحول إلى عقلانية سامية إلا بفعل الإرادة. فبالإرادة نستطيع أن نجعل المعرفة فضيلة. هذا، لأنه لايكفي أن نعرف أن الشر شرّ وأنه يسيء الى النظام الكوني والى جوهرنا، بل يلزم أن نتعقله، فنريده خيراً؛ ولايكفي أن نعرف الحق، بل يلزم أن نضعه موضع التنفيذ؛ ولايكفي أن نعرف العدالة والمساواة بل يجب أن نطبقهما. ولاتتحول المعرفة الى حقلها العملي، أي الفضيلة، إلا بفعل الإرادة التي تؤدي الى تطبيقها في الواقع. عندما أتأمل الحكمة السرمدية الماثلة في عبارة« اعرفوا الحق يحرركم» أعلم أن المعرفة تؤدي بنا الى الحرية.والحرية تعني انطلاق الإنسان في عالم معرفة الحقيقة، إذ كلما عرف الإنسان أصبح حراً.فهي إذن سعي الإنسان إلى فهم نفسه ووجوده المادي والروحي. ونستطيع أن نمثل الحرية بصفاتها الأدبية التالية: - هي الخلاص من الجهل والانعتاق من إشتراطات قيوده. - أنا أخضع إن كنت جاهلاً، وأسود إن كنت حراً. - أنا عبد إن كنت أجهل، وحرّ إن كنت أعرف. -أنا عبد تقيده سلاسل الجهل، فأخضع له لأنني لاأعرف فأقترف الشر؛ ومتى عرفت فإنني أنعتق من جهلي وشري.إذن، في المعرفة تكمن الحرية. -حريتي تخترق الجدران التي تحيط بي لأن روحي تتجاوز المكان والزمان؛ وعبوديتي تظل سجينة الجدران التي تحيط بي لأنها مشروطة بالقيود؛ إنها عبودية الفكر والروح.. إنها الجهل. -كان إبكتيت، الفيلسوف الرواقي، عبداً رومانياً؛ لكنه كان حراً.وعندما علم مالكه أن من يستعبده امرؤ حرّ، منحه الحرية المدنية العادية، وأطلقه من عقال العبودية المادية الظاهرية. لكن ابكتيت كان حراً في كيانه حتى ولو كان عبداً في ظاهره.. كان حراً مثل ماركوس أوريليوس الإمبراطور الذي عانى من عبودية داخلية رغم مظهره الامبراطوري. تصف لنا هذه السطور الأدبية الحرية في رمزيتها. وتشير هذه الحرية الى المعرفة التي تشير، بدورها، الى الانعتاق من الجهل. والجهل، كما يقول سقراط، هو السبب الدافع الى الشر. وهو، كما يقول ابن الإنسان، السبب الرئىس لاقتراف الخطيئة:« اغفر لهم لأنهم لايعرفون ما يفعلون».وأنا، في واقعي الإنساني، اقترف الخطيئة لأنني أجهل الحقيقة، وأنفي الفضيلة والمحبة. لذا، يعد الشر نتيجة لازمة للجهل. ولايمكن أن نتجاوزه الى الخير إلا بالمعرفة التي تحررنا. تحررنا المعرفة من الخوف، من المجهول ومن الوهم. فالإنسان يخاف الموت لأنه يجهل ما يقع وراءه، فيعتبره شراً أو مصيبة؛ ويخاف الغد الذي لا يزال زماناً مجهولاً؛ ويخاف الحقيقة السامية لأنه يجهلها ويجهل محبتها؛ ويخاف المرض لأنه يجهل حقيقة الصحة؛ ويخاف الحياة ذاتها لأنه يجهل سرّها، ولايعرف الطمأنينة النفسية والعقلية. أما الإنسان الذي يعرف أن الموت مجرد تحوّل وانتقال، وأن التحول مبدأ العالم المادي، يتحرر من جهله هذا ولايخاف.والإنسان الذي يعرف أن الغد، وإن كان زماناً لم يحدث في أرض الواقع، قائم فينا ومستمر في حال غيابنا عنه أو في حال موتنا الظاهري، يتحرر من جهله ومن خوفه.و الإنسان الذي يتحرر من أنواع الخوف كلها يعرف أنه كان جاهلاً بالحقيقة، يعرف أنه لايحب الخطيئة. والمعرفة تعني البحث عن الحقيقة.فعندما نفكر في أنفسنا نحتار ونتساءل عن جوهرها وسرانيتها.وعندما نفكر في الكون الواسع وامتداده العظيم اللانهائي،نتساءل عن حقيقته.وعندما نفكر في الحياة، في عمقها وديمومتها، نتساءل عن حقيقتها. وعندما نفكر في الوعي الكوني، نتساءل عن حقيقته. وعندئذ،نحب أن نعرف لنكون أحراراً.. نريد أن نعرف كيف تتم الحركة في المادة. وكيف تدور الكواكب، ولماذا تدور وما هي أسباب دورانها. ونريد أن نعرف كيف تكون المادة حية؛ ونريد أن نعرف الغاية من وجود الكون؛ ونريد أن نعرف كيف تتكاثر الخلية لتصبح كائناً كامل التكوين. ونريد أن نعرف كل ما يتعلق بالكون المادي والروحي؛ ونريد أن نعرف ماهية الشعور، والإحساس،والإدراك، والعاطفة، والميول، والأحلام، واليقظة، والنوم، والموت، والانحلال، والتحول، والخلود وماهية التفكير ذاته.نريد أن نعرف حقائق جزئية ونسبية نسعى الى توحيدها في قانون واحد. نريد أن نعرف إن كنا كائنات محدودة أو لامحدودة. يشير ما ذكرته أعلاه أن المعرفة هي البحث المتواصل عن الحقيقة بكل صورها، وصيغها وظاهراتها المادية والروحية،و هي الدافع أو الصوت الصارخ في أعماق الإنسان: اعرف نفسك والوجود معاً. إن نفسك حقيقة تتطلب منك معرفتها لأنك لاتستطيع أن تعرف شيئاً يقع خارج نفسك وكيانك إن كنت تجهل نفسك أو إن كنت تخسرها.. كيف تستطيع أن تفكر وتعرف نتائج تفكيرك إن كنت تجهل جوهر التفكير،كيف تفكرولماذا؟ لذا، تقف، أيها الإنسان، حائراً وسط حقيقة كبرى هي الكيان أو الوجود الكلي المتمثل فيك.. وتتجلى هذه الحقيقة في عظمة الإنسان الواعي ومستوى معرفته وحريته. تتأكد العلاقة الوطيدة بين المعرفة والمحبة والفضيلة. هذا،لأن الإنسان لا يسعى الى المعرفة إن لم يكن يحب أن يعرف. ففي أعماقه محبة للكون، محبة للحقيقة السامية، محبة للإنسان، محبة لنفسه، محبة للحيوان والجماد. وتتجلى هذه المحبة في دافع قوي نحو المعرفة: معرفة الكون، معرفة الحقيقة السامية، معرفة نفسه، معرفة وجوده، معرفة الحياة المركزة في الجماد والنبات والحيوان؛ وتتجلى هذه المحبة أيضاً في انجذاب قوي الى المعرفة: الانجذاب الى كل ما يحيط به ويحيا في داخله وخارجه. إنه يحب أن يعرف، ويريد أن يعرف. والإرادة، كما ذكرت سابقاً، هي القوة التنفيذية لتحقيق محبة المعرفة . إنه يحب أن ينجذب إلى كل شيء ليعرف كل شيء.ثمة وحدة تضم الإنسان الى الإنسان، وتجمع بينه وبين سائر الأشياء. وإذ يشعر الإنسان بهذه الوحدة،يحب كل موضوع. يحبه، ويريد أن يعرفه، فتتحد روحه وفكره بروح الكل وفكره، فيحيا في الموضوعات وتحيا فيه؛ ويحيا في الآخرين ويحيون فيه؛ ويحيا في الحقيقة السامية وتحيا فيه؛ ويكون واحداً مع الكل. ولما كانت المحبة دافعاً للإنسان وانجذاباً له في آن واحد، فإن الحقيقة تظهر واضحة له وجلية عندما يعلم أن محبته لها تؤدي به الى معرفتها والاتحاد معها. المحبة والحب: تختلف ماهية المحبة عن الحب. فالحب بعض من المحبة لأنه يجسد وجهها السلبي أو المادي. ولكل نوع محبة وجهه المادي؛ومع ذلك، يكون الحب تعاطفاً أو تجاذباً مادياً، يخلو من الوعي والفضيلة. تنشأ أهواء الإنسان وانفعالاته من الحب؛ ولذلك تكون لاواعية من حيث أنها تخلو من الغاية والحكمة. فالحب العضوي انفعال جسدي يصدر عن الأنا المتملكة. ولئن كان تعاطفاً للأنا مع الأنا الأخرى، إنما ينأى عن أن يكون التوق البدئي الذي يجمع الثنائية الإنسانية في الجسد الواحد. وهو نزوة طارئة، وانقياد أعمى لانفعال مجرد من عقلانية واعية وسامية، ينقضي ويترك وراءه الألم السلبي الناتج عن لذة عابرة. فحب المال انفعال ينتج عن تعاطف الانسان مع الأنانية ومع شهوة القوة المعبَّر عنها بالعنف ومع القدرة المادية المعبر عنها بالتسلط.و حب الانتقام والكره هو انجذاب الإنسان الى تلقائية الإنسان الأناني، وانفعالها المجرد من الحقيقة والفضيلة والخير؛ وحب التكبّر والغطرسة هو دافع منحرف الى رغبة وشهوة، وانجذاب إلى عظمة فارغة تنشأ من نقص في البنية الفكرية والعقلية والأخلاقية؛ وحب الجسد هو انفعال مادي لايتساوى مع قوى العقل والحكمة. فالحب، في حدّه الأدنى، هو الوجه المادي والسلبي لماهية المحبة.وكل عملية حب لاتؤدي الى محبة ما لم ترافقها عملية معرفة ووعي. وباقتران الحب بالمحبة،تتحول الطاقة الجسدية الى طاقة روحية تكسب الحب الجسدي صفتها الكونية. هكذا، تفعل المحبة في الإنسان لإشعال قوة الحياة الروحية فيه، وتحقيق مثالية الوجود. المحبة تعي؛ أما الحب فإنه لايعي. والمحبة ثابتة ودائمة لاتتزعزع أركانها وأسسها لأنها تنسجم مع النواميس الكونية التي تتجلى فيها الرو ح السامية من خلالها.والحب آني ومؤقت، ينقضي لأنه لذة عابرة.و كثيراً ما يتحول الحب الى بغض وكراهية، وذلك لأنه يخلو من وعي وحكمة المحبة. لكن المحبة تدوم، ولاتتحول الى كره لأنه تعبر عن قوة الروح وعمقها، وعن ثبات الإنسانية في الإنسان ، وثبات الإنسان في الإنسانية؛ هي ثبات صورة الوعي الكوني في الإنسان وثبات الانسان في شمولية الحقيقة السامية وكليتها ونقائها.. هي ثبات الإنسان في الآخر،و ثبات الآخر في الإنسان. فالمحبة تعلمني أن أترفع عن الرغبة أو الشهوة،والحب يشجعني على الرغبة والشهوة. والمحبة تلهمني أن أحترم جسد الإنسان، بينما الحب يحرضني على استغلاله وإذلاله وإهانته.والمحبة توجهني الى الرأفة بالآخرين وتقدير مواهبهم وترشدني الى التحمل العقلي والتسامح الروحي، والحب يثيرني الى حد تخطي حدود الآداب والأخلاق مادمت لاأشاهد الأمور، إلا من زاوية ضعفي الفردي، وطمعي واستغلالي وأنانيتي وميولي التي تسيطر عليها الأنا المتملكة وليس الأنا المعطاء.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية