تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ســـــردية الشـــــعر

ملحق ثقافي
7//20063م
نبيل سليمان

في هذا السياق تنهض من جديد المفاضلة بين الشعر والنثر، كتجلّ جديد للمفاضلة القديمة. وأكتفي من التمثيل لذلك بما قال الشاعر الاسباني خوسيه يرو، وهو يجيب على سؤال عما إذا كان الشعر هو الجنس الأدبي الأكثر بلاغة وتمثلاً للحياة.

ينطلق السؤال من تقرير الشاعر خوان بروسا أن الشعر هو الجنس الأدبي الأكثر اكتمالاً وصدقاً لتفسير عصرنا، بالمقارنة مع الرواية. أما جواب خوسيه يرو الذي يرى رواية بروست (البحث عن الزمن الضائع) شعراً غنائياً، ويرى رواية (عوليس) لجيمس جويس قريبة جداً من الغنائية ومن الشعر، أما هذا الجواب فلا يأخذ بمبدأ المفاضلة، ونقرأ فيه: «أنا لا أظن أن الشعر أرقى من الرواية، بل هو شيء آخر». ويشخص الجواب محورية ذات الشاعر مهما نظر الشاعر حوله، كما يشخص للروائي قدرته على التموضع. وهكذا فالشخصية الوحيدة في الشعر، عندما يقدم أحداثاً، هي شخصية الشاعر، أما في الرواية فتتعدد الشخصيات، وتكون الأفضلية للشعر في تصوير الذات، فليس هناك جنس أفضل أو أسوأ، كما يقرر خوسيه يرو. على أية حال يجري الحديث عن قصيدة سردية (فريال جبوري غزول) وخطاب شعري حكائي (سعيد يقطين).وتنبثق هنا مقومات عديدة للرواية الشعرية ولشعرية الرواية، لتخاطب هذه المرة الشعر السردي وسردية الشعر. ومنذ عهد مبكر التفت الدارسون في الجامعات وخارجها إلى قصة شعرية ما في قصيدة ما من تراثنا الشعري، غير أن صوت الشاعر هنا- لاصوت النصوص- وصوت الناقد، يظلان أخفت بكثير منهما في حالة الرواية الشعرية، وربما كانا أقل فصاحة وأكبر غمغمة، فلماذا؟ إلا أن الشعر في أمان مهما تسرّب إليه من الأجناس الأخرى؟ إلا أنه الأول القديم، وسواه المحدث التالي؟ أما بالنسبة للنصوص ، وسواء منذ بداية التجربة الحداثية في الشعر العربي حتى الآن، فلعلّ لها صوتاً آخر، نمثل له في مرحلة مبكرة بالمومس العمياء للسياب. وتتكاثر أمثلته الأخيرة، ومنها ما هو أكبر تجريبية أو مغامرة، ومنها ما كان صاحبه، روائياً أو ناقداً أيضاً، ومنها ما ينطوي على عناصر جمّة تفتق القول في الشعر والسرد.. وسنتناول بعضها في حدود هذه المداخلة، مما يتوخّى أن ينطوي على تلك المعالم المؤهلة أو على أكثرها. والقصائد المعنية هي إذن: (أحمد الزعتر) لمحمود درويش، (مفرد بصيغة الجمع) لأدونيس، ،(فضيحة الثعلب) لابراهيم نصر الله، (الكنعانياذا) لعز الدين المناصرة، (منزل يعبث بالمرات) لسليم بركات، (عذابات المتنبي) لكمال أبو ديب. أما بركات ونصرالله فهما، روائيان أيضاً، وأما المساهمات النقدية لأدونيس وأبو ديب والمناصرة فتفسح لهما بألمعية بين النقاد. فيما يتعلق بنصّي درويش وأدونيس تستوقفنا دراسة محمد لطفي اليوسفي لهما، حيث تحظى السردية فيهما بعناية خاصة من الناقد. ولكن قبل ذلك لنر ما يرى الناقد نفسه في الشعر والشاعر والشعرية. فمنذ البداية ينصّ على أن تعريف الشعر غاية لا تدرك. ثم ينصّ على أن الشعر نشاط لغوي، ونتاج عملية توليدية لغوية، للإيقاع فيها شأوه، وهكذا، تنبع الشعرية من البناء اللغوي. أما الشاعر فشخص غير عادي،صاحب رؤى صانع كلام. وهو الشخص الوحيد القادر على تمزيق النسيج اللغوي وفتح آفاق تعبيرية جديدة يرفد بها النظام اللغوي نفسه. وتمضي الحماسة (الصوفية أو الأدونيسية) بالناقد فيقرر أن الشاعر، بحكم طبعه الشعري، شخص مهيأ لرؤية ما لا نرى. ومن لم يقف على عتبات الجنون فليس بشاعر، وهذا هو جوهر الرؤية الشعرية، الرؤية المتفردة، بحسب اليوسفي. ولكن ماذا لو كان الميلودي شغموم أو حيدر حيدر صانعي كلام وممزقين للنسيج اللغوي؟ ماذا لو كان تولستوي أو اميل حبيبي يفتحان آفاقاً تعبيرية جديدة؟ ماذا لو كان ادوار الخراط صاحب رؤى، ويقف على عتبات الجنون؟ هل يعدون إذن شعراء لا روائيين أم شعراء روائيين،أم..؟ ولمَ لاتكون الرؤية بالغة التعقل مثلاً رؤية متفردة؟ فهل يكون صاحبها إذن شاعراً؟ بعيداً عن هذه الضبابية، يتعمق الناقد في سردية الشعر وهو محلل النصين المذكورين لدرويش وأدونيس، وإنْ كتم فيما يلوح لايصل بذلك إلى غايته، ربما درءاً لقداسة الشعر من دنس السرد. فـ(مفرد بصيغة الجمع) هي سيرة ذاتية، وبطل هذه السيرة هو علي أحمد سعيد/ أدونيس/ الشاعر، وعناصر السرد فيها، مما نصّ عليه الناقد أو ألمح إليه، هي: -اللعب (كوصف الراوي للأب) -المشهدية. - البطل وهو الراوي/ الشاعر. - السرد كيوميات علي في القرية - الحدث(الصغير كقطع البطل للنهر- أو الكبير/ المشروع: كشف العالم وتغييره). -الزمن من الموت إلى الانبعاث، وبأشكاله. الملحمي الأسطوري، الميقاتي الموضوعي، الفني. يحاول الناقد التعرف على (ملامح البطل الرئيسي) ويعاين الومضات التي تمنح نفسها للمتلقي في قالب سرد قصصي يتسم بشفافية مرهفة، كما يعاين تواصل السرد القصصي ومحافظة اللغة على شفافيتها. ويرى الناقد جملة ذلك في سياق التشكيل الموحي الاندياحي لها، والذي تقطعه حركة ما، تكاد تكون قصيدة مستقلة. والحق أن هذا القطع حين يأتي سردياً، فيقدم ومضة من حياة الشاعر اليومية، لايختلف عن أي سرد روائي تقليدي، كقول أدونيس: «الجمعة-ينتهي باكراً من العمل يسير بين أشجار الزيتون خفيفاً يتكىء على ظلالها.» أو« وبكى عباس مرة حين كاد النهر أن يغلب علياً ويأخذه السيل إلى نهاياته». وهذا الوصف للأشياء، ومحاولة صنع مشهد منها، يدفع بالسؤال عما إذا كان مقطعاً من قصيدة أم مقطعاً من رواية حداثية أو تقليدية. «يكلمني كرسي ليس بيني وبينه ترجمان عند الكرسي حوض عند الحوض ميزان حول الميزان بقرة والكتب تتطاير». وفي القصيدة كثير من ذلك.والملاحظة المهمة هنا هي أن مثل هذا الخروج على الإيقاع والمجاز والاستعارة،مما يتوافر في القصيدة، هو سمة سردية بامتياز، وهو ما حرر الكلمة حيناً، أو إلى مدى، من الأسر الأدونيسي الأليف، ووفر للقصيدة من الرحابة ما وفر.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية