على باب شمس القلب
ملحق ثقافي 7/3/2006م منبـــــيه الشـــــــعار في اليوم القائظ في أول اليوم القائظ.. رفعت سنبلة رأسها الصغير،وبعد أن تلفتت ذات اليمين تلفتت ذات الشمال، ثم شرعت في الكشف عن ركبتها أمام العصفور الصغير.
ولأن العصفور الصغير لم يعرها اهتماما باشرت خلع ملابسها الذهبية قطعة قطعة، غير آبهة بالسنابل الذكور المجاورة، ولا متعظة بما حل في العام السابق من السحق المتواصل دون رحمة لكل سنبلة تعرت، وإذ فرغت جعلت تغمز له بعينها الواحدة كأنها تدعوه إلى فعل محبب ما؛ فلم يستجب. زعمت في نفسها أنه لم يكن راغبا في الفعل الذي تدعوه إليه ذلك الوقت المبكر من النهار القائظ، حيث كان النوم الصعب آخذه كله، وحيث كل شيء كان لا يزال يغط بالنوم العميق.. يحلم بعضه مستمنيا بقطعة جبن أو رشة زعتر بري حبيب الرائحة. . وبعضه الآخر خائف من كابوس بأن يغدو عند رابعة هذا النهار القائظ في كيس طحين يتوجه به حمال قميء نحو تنور أو فرن، وجل ما كان يخيف ذلك البعض أن يلهو به صبي أرعن وأنت نزوي عنه حسان الضيعة إذا ما اشرأب فطاول شعرة واحدة من شعورهن الشقر فاعتكلها- كما يحسبن، وفي الحقيقة يكون يتعاطاها تعاطي أمير لجارية، حبيب غريب لحبيبة غريبة.. بعض من الكل شيء كان يحلم بالارتياح، وبعض يحلم باستباق الأيام إلى الشهور وبمياه الأنهار في سعيها الحثيث باتجاه البحر، وبعض باستباق الشهور وبمياه الجداول في تشاغلها بالجريان فيما هي تسعى سعيا سريا لا يعرف الكلل لكي تتسرب إلى جوف الأرض،وبعض اخر كان يتقلب في رقدته كاشفا سيقانه وما فوق سرته في اطمئنان ودعة لشدة الحر.. أما البعض الكثير، فكان مستسلما يحلم بانقضاء السنين ولا يصحو إلا للصلاة، ذلك البعض هو الذي استوعب أن الغاية من الوجود كله هي العبادة تسبيحا لرب العباد آناء الليل وأطراف النهار. وهكذا فإن السنبلة- وكانت ترى ذلك- أكملت عريها الصعب السهل الفاضح، وغنت للعصفور الصغير ما يعرف بأنه الأغنية الأولى، وحررت له التفاحة الوحيدة من سطوة الشجرة واستلقت تحتها.. ما كاد العصفور يهم بالاقتراب- كان يريد أن يرى ما الذي يحصل ولماذا- حتى عاجلته السنبلة واغتصبت قبلتها من منقاره المتورد، فغضب غضبا عظيما وطار نحو الغيم فوق الغيم، وأقسم أن يشكو أمرها للقمر، فإذا لم ينصفه اكتفى بالطلب إليه ألا يفسح مكانه لأي شمس راغبة في القدوم، وما هذا مطلب عزيز التلبية. ملك الشجاعة قلب السنبلة، وفعل التحدي فعله فيها، فاستمسكت بقدميه وقالت له: لن تحلق إلا وأنا معك. غرس أظافره بقلبها تماما وطار بجسمه وبروحه وبها، بعيدا بعيدا.. صارا في الجو. نظر العصفور الصغير إلى جموع السنابل على الأرض فوجدها جميعا مستلقية على البيادر وعلى جوانبها، تتلاقى مع عصافير كثيرة كان قد سمع بأنها ستقبل من مكان بعيد فترتاد الوطن وتفعل فيه ما تفعل، أحس بمرارة وبخزي شديد وبالعار يجلله، فشد الأظافر على السنبلة بكل ما فيه من قوة ومن غيظ ومن انتخاء.. أما السنبلة فكانت تنظر إلى الأعلى تستعطي الصبر وتحمل مشقة ما هي عليه، لكنها لم تكن تحس بالهوان ولا حتى بالامتعاض لهذه الطريقة الفظة التي اتبعها العصفور الصغير مع ولهى أرادت أن تمتعه وأن تتمتع لحظة قبل وقت الحصاد القادم قدرا سنويا ماحقا لكنه معتاد. توقف في الجو هنيهة.. استشعر في ذاته ذنبا لم يقترفه، فخجل خجلا ما بعده خجل، ودخل غيمة رقيقة فاغتسل، تخلص من آثام ماضية ومن إثم لم يرتكبه، وحين اغتسلت السنبلة أفلتها وأمرها أن تستر عريها فامتثلت صاغرة.. ثم توضأ كل منهما، وقررا الذهاب إلى أقرب كنيسة لتعترف هي بذنبها، ويعترف هو بذنوب الآخرين.. لكنهما وقد وجدا نفسيهما وجها لوجه عجوزين بعد طول السفر في الفضاء الرحب، تراجع كل منهما عما نوى. عادت إلى تعرية ساقيها وكانا متشققين، طار صواب العصفور الصغير العجوز فأسلس لها منقاره الأحمر تقبله تقبله حتى ماتت. لم يكن العصفور الصغير العجوز قد خبر الموت قبلا، فاحتار فيما حصل، واستغرب أنها كفت عن التقبيل.. كان قد وجد في التقبيل لذة عظمى عندما امتزج لعابه المالح بلعابها النشوي حلو الطعم فقد أعطاه ذلك شعورا بشبع لم يشبع مثله يوما قط. هزها بمنقاره هزة.. هزتين، لم تتحرك! هزها بأحد جناحيه، لم تتحرك!.. صفقها من الجانبين بجناحيه الاثنين، لم تتحرك!.. أحس بخيبة كبيرة، فبكى.. وبكت معه غيمة رقيقة بكاء لا صوت له، حملها بمنقاره الأحمر واستقبل الشمس البعيدة ليشكو لها ما حصل،لم يعد راغبا بشكواها، ولا بالشكوى منها. غادر الأمكنة والغيوم العالية والأزمنة،حتى وقف على باب الشمس فقرعه مرات، دفعه مرات أكثر فما فتح، ظل واقفا بالباب أعواما، كل عام مقداره ألف عام مما يعد أو يزيد.. وما يزال واقفا بالباب كسيرا يهز السنبلة بجسمه كله هزا متواصلا لا ينقطع لعلها تصحو.. لعل الباب يفتح.- الاتخجلين ياقمْطرة ؟ قالت قمْطرة: -اخجل مثلك ومثل كل النساء،وبعض الرجال أيضاً، لكن المسألة -اخرسي ! -ولماذا اخرس ما دمت على الخط تماماً، وفي لب المسألة، ولاعيب في الحلال؟ هل أنت آنسة مثلي؟ صاح القاضي مستعيداً هيبته: -ياقمْطرة، ياشيطانة، يابنت ألف.. انتهينا من المسألة فإياك والعودة إليها.. هل تسمعين؟ ماذا جرى بينك وبين هذا البهيم صقرش؟ -دخلنا في حرف الراء.. ولكنني، قبل الكلام على الرأي،اسأل الدفاع: هل أنا على الخط؟ قال محامي الدفاع الصياد مغاور: - انت على الخط تماماً واقسم برحمة زوجي التي توفاها الله صبية، في عز شبابها.. -قبل النون أم بعدها كانت الوفاة ؟ - وما علاقتك انت بذلك؟ - علاقة المرأة بالمرأة ياجناب المحامي.. وهذه العلاقة تعيدنا الى النقطة التي بدأنا منها..
|