تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


قصر الشيخ

ملحق ثقافي
7/3/2006م
فراس فائق ديــــاب

روح قديمة بعيدة عني.. إنني أحس بها الآن... المطر بدأ بالهطل، تحول المطر إلى حبات كبيرة.. نثر الجو على الأرض برد (حبات البرد تضرب بعنف زجاج نظارتي.... الشعر المتبقي في رأسي يلتصق تماما.. أبدو مكشرا، أسناني تظهر للعيان تماما... لا أعرف إن كنت أبتسم أم أبكي. لا أعرف ذلك تماما.. أشعر بروح قديمة بعيدة تأتي نحوي.. لا أرى أحدا، الشارع خال تماما.. نثر الجو على الأرض برد) الآن أشعر بالبرد.....

ضباب كثيف يمنع رؤيتي لأبعد من أرنبة أنفي... حبة برد تنقلب وتقع على الأرض تمسي دربا... درب... إنه صوت أختي.... أسمع تكبيرات المآذن ولا أرى أناسا يسيرون في الشوارع.... لابد أنها أختي التي تأتي ومعها ثياب العيد.... إنها تتشاجر معي..... كما تتشاجر مع أولادها، هذا القميص جميل عليك..... هذا الحذاء أنيق في قدميك إنها تقبلني..... تبكي عندما تكون فرحة... الرؤيا واضحة تماما... إنني أعبر ممرا حزينا.. إنها أمي أعرفها من مشيتها.. تتمايل يمنة وشمالا مثل بطة تبدو عليها ملامح الهيبة والوقار.. أبكي... إنها أمي تتحسس جسمي...... تتفقد ثيابي.... أين كنزتك الرمادية... ستمرض..ستمرض.. برد الصيف مؤلم...... روحي متخمة يا أمي... الغروب يبدأ بالهطول.. روح قديمة بعيدة.. إنني امشي... قدماي تؤلماني... أخلع حذائي وأضعه على كتفي..... عيناي نصف مغمضتين..... الإعياء بدا يغزو جسمي النحيل.... من العجوز المكتومة على رصيف الشارع بانتظار الباص؟ إنها عمتي.. قدماي متعبتان، لن أركض إليها.. يدان مرتجفتان تمتدان نحو عيني بحنو طاغ.... أنت جائع تعال معي يا حبيبي... تأخذ بيدي مثل طفل صغير... لا تنسى أن تتكلم عن أمي المنشغلة بالزيارات..... عمتي لقد شبعت... لا..... كل هذه (السنداوة)..إنها تغسل فمي ويديّ.. تمد يدها في جيبي لتضع النقود.. أمشي والرياح تهب.. إنها رياح الخماسين... الغبار... الغبار.... يجتاح الدرب... إنني أدخن..... هو ذا والدي.....إنه متوقف هناك على ناحية الشارع.. نظراته الثاقبات تخترقني.. أرتجف. .لا . والدي متوف..اقترب منه بتوجس.. حقا إنه والدي.. إنها رياح الخماسين... الغبار... الغبار.... يجتاح الدرب... إنني أدخن..... هو ذا والدي..... متوف أقترب منه بتوجس.... حقا إنه والدي.... السيجارة تدخل في كمي... سيعرف أنني أدخن... ليس معي علكة...... ستفضحني الرائحة..... حسنا لن أتنفس في وجهه..... إنه صامت عيناه لاتتحركان..... لا تعدان بحساب عسير... فمه مغلق... هو لا يريد مني شيئا.. فلأمش إذا... الأوراق الصفر تتساقط على الأرض... لا أرى أشجارا... أشعر أنني ما زلت في المدينة... لمن هذا الظل الفاره. إنه هو عبد الباقي الدرويش.. بهيكله الضخم وشالته الطويلة.. لا بد أنه سيضربني بها قبل أن يلف نصفها على عنقي ونصفها على عنقه... هكذا كنّا نمشي معا نحو المدرسة الثانوية.. لقد مر بجانبي ولم يسلمّ عليّ... هل هو غاضب مني... أشعر أنني وحيد... عبد الباقي سافر منذ سنوات طويلة ولم يعد... دربي طويل من هذه التي تلعب بالحبل.. تمرره فوق رأسها وتقفز فوقه عندما يلامس الأرض، إنها ابنتي.. يا إلهي لقد شفيت تماما.. قال لي: - تعال يا بابا والعب معي... إنني معافاة تماما.. لن تقول (شقيقة أمي) إنني عاجزة بعد اليوم.... لا يابابا لا تحرقها بالنار.. حرام.. انظر إلى هذا الحذاء الجميل..... لن تخلعه أمي وتأخذه معها إلى زوجها البشع.. - اذهبي إلى والدتك ولا تخافي.. الشمس لاهبة.. أشعر بالعطش الشديد... لساني يلتصق بسقف حلقي... دكان السواس قريبة... المحل مفتوح، يا أبا الحاج.. يا أبا الحاج.. لا أحد.... المحل فارغ تماما.... تناولت (مجحاف الثلج) ونشرت قليلا منه في كأس من السوس وشربت بضع مرات وانصرفت.... الشمس ما تزال لاهبة والدرب أمامي طويل... زوالا شخصين يظهران من بعيد... أحس أنها زوجتي السابقة وأخوها.. تظهر ملامحها... ياله من وقح قليل الوجدان.. يسير في الطريق بثيابه الداخلية دون أي حياء، إنه يضحك كالمخنثين. أشمئز منه وأمضي في دربي.. دربي طويل.. الثلج يتساقط في غفلة، لم أعد أدري في أي فصل أنا... لقد تعبت.. أسناني تصطك... إلى أين سأذهب.. أبخرة تصاعدت من دكان أبي راتب.. عبدو.. عبدو.. من هذا الذي يناديني؟ ألتفتُ باتجاه الصوت.. فأرى ابن عمي مصطفى في باب بيته على كرسيّ متحرك... - خذني معك.. أريد أن أرى الثلج يهطل على رأسي.. منذ سفرك لم ألعب بالثلج.. لن أسمح لك بالسفر بعد اليوم.. أخرجته من جانب الباب وقدته على كرسيّه المتحرك.. إلى الثلج.. شاهدنا أبو راتب من دكانه.. فقال: -إلى أين تأخذه ياعبدو في هذا الطقس البارد.. أدخله إلى دكاني.. في الدكان مصطبة عريضة يتربع في زاوية منها أبو راتب.. باسطا فوق رجليه بساطا من الجلد.. رائحة (الكاز) تعم المكان... أبخرة القصدير تتصاعد من المكان.... دقيقة ونشرب الشاي معا.. لو تدري يامصطفى... لقد ختمت اليوم مائة تنكة من الجبن لأبي خالد تاجر الألبان... أبو راتب ينفض رؤوس البوابير.. ولكن رؤوس الناس الخرساء من سينفضها؟ - ياعبدو لا تشرد كثيرا.. الصدأ في رؤوس الناس لا يفكه النقع في وعاء الكاز مائة سنة.... ابتسم ياعبدو... ابتسم.. انقطع الثلج. ودّعت ابن عمي وأبا راتب.. دربي طويل... الروح القديمة تناديني.. روح بعيدة أمضي إليها... أين اختفت لعلها سكنت في الحجر المتطامن... دربي طويل وقصر الشيخ بعيد.... نواة من المشمش تصيب نظارتي وتكسر إحدى العدستين..... صوت حاد يناديني.. يد تمتدّ من جديد تحاول إصابتي بنواة أخرى.. إنها هي (ريتا الدلوعة).. سأحطم رأسك يا ريتا... ستطالك يدي.. ضحكة مدوية تختلط بزقزقة كأنها عصفورة.. أجري خلفها.. تدخل في المدرسة الابتدائية. أدخل وراءها وأتلفّت ذات اليمين وذات الشمال.. أنظر إلى الأعلى.. المدرسة فارغة...... أدخل إلى شعبتي.... إلى مقعدي... أرى غبارا سميكا يملأ المنضدة والمقاعد... خزانة المعلمة مفتوحة.... رائحة ورق وطباشير.... محفظة ملقاة على الأرض بداخلها قطعة صغيرة.... لا أرى كتابا.. لا دفاتر..... خربشات الأمس على المقعد تبدو واضحة بعد أن أزحت عنها الغبار.. أسماء محفورة على المقعد... لا أميزها تماما لأنّ عدسة نظارتي اليسرى مكسورة. أين اختفت ريتا؟..... أين اختفت؟..... القطة تخرج من المحفظة ثم تعود في حركة لائبة... هناك على السور.. هناك على السور كنت أضع حقيبتي للفرار وراء السياج.. وهناك كانت معلمتي تمسك يدي وتعيدني بإرشادها الأنثوي إلى مقعدي.... لا بد أنها توفيت... الدموع تنهال من عيني بغزارة.... لا يعقل هذا...... أرجو الله أن تبقى على قيد الحياة. - ريتا... ريتا... أيتها الشقية - إنني هنا تعال إن كنت رجلا أمسك بي. إنها تركض خارج المدرسة.... سأتركها وشأنها، لا أحب اللعب كثيرا، سأمضي دربي طويل... أشجار من توت العليق تسدّ طريقي.. أمدّ يدي.. آخ إن لها أشواكا كثيرة... لابد أن أنتعل حذائي لقد مللت من حمله على كتفي.. كيف سأجتاز توت العليق... قريبا من الأرض تبدو لي فتحة دائرية صغيرة.. ليس من وسيلة سوى الدخول زحفا بأقل عدد ممكن من الأشواك لا بد أن تدخل جسمي... قصر الشيخ مازال بعيدا..... بدأت الزحف.. جسمي يؤلمني.. أين فتاة العليق.. أسمع حفيف ثوبها ولا أراها.. كنا أنا وهي جارين للعليق.. والآن لم يبق منها إلا الذكرى.. تابعت طريقي.. الضباب ينهل عليّ ويحيطني من كل جانب.. أخيرا يتراءى لي القصر من بعيد... إنه قصر الشيخ بلا شك.. مصابيحه تتلألأ في قلب الليل الساجي، باب القصر مفتوح.. أعبر الممر الطويل إلى الداخل.. ينفتح الممر عن ساحة كبيرة وبركة دائرية جميلة.. يغرّد فيها الماء... القاعات مظلمة إلا قاعة واحدة.. ينتشر منها ضوء فضي.. أدخل متوجسا إلى القاعة المضاءة.. فأرى الشيخ جميلا على مصطبة عالية، إنه ساجد يصلي على سجادته البيضاء... ثيابه كلها بيضاء، بقيت صامتا، وبعد قليل أنهى الشيخ صلاته.. والتفت نحوي باسما: - أهلا بولدي الحبيب... أين كنت مرّ زمن طويل لم أرك فيه.. وتناول من صندوق قريب قطعا من السكاكر وألقاها إليّ.. فقلت له فرحا: - لم أعد طفلا ياسيدي... - ستظل طفلا في عيني. أشعر بالبرد ينخر عظامي.. البرد ينتشر في كل مكان.. يختفي الشيخ ويختفي قصره.. لا أرى إلا حجارة متساقطة وأتربةً تملأ المشهد، لم يكن ذلك قصره إذاً..... سأتابع طريقي إليه وسأجده ذات يوم.. طريقي طويل.. والبرد يملأ الدنيا.. ينقر شبابيك الروح المشتاقة.ولم تشركي.. ولكنْ لكي أظل كذلك كل الجهات لقلبي وكل الأماني لك أقول الذي لا يقال.. أحاول شد الخيوط وإيقاع نفسي بها.. كي أظل أقاوم أو أتنفس إيقاع هذا الوجود لكي لا أعود إلى لعبة القط والفأر سوف أفك جميع القيود لأن الصباح الذي أرتجيه يظل خبيئا بقلبي فسوف يظل يلاحقني وهم حبي.. وسوف أظلّ أمارس لعبة بعدي وقربي.. وسوف أظل أميل على نصف عكازتي نحو دربي-اخرسي ! -ولماذا اخرس ما دمت على الخط تماماً، وفي لب المسألة، ولاعيب في الحلال؟ هل أنت آنسة مثلي؟ صاح القاضي مستعيداً هيبته: -ياقمْطرة، ياشيطانة، يابنت ألف.. انتهينا من المسألة فإياك والعودة إليها.. هل تسمعين؟ ماذا جرى بينك وبين هذا البهيم صقرش؟ -دخلنا في حرف الراء.. ولكنني، قبل الكلام على الرأي،اسأل الدفاع: هل أنا على الخط؟ قال محامي الدفاع الصياد مغاور: - انت على الخط تماماً واقسم برحمة زوجي التي توفاها الله صبية، في عز شبابها.. -قبل النون أم بعدها كانت الوفاة ؟ - وما علاقتك انت بذلك؟ - علاقة المرأة بالمرأة ياجناب المحامي.. وهذه العلاقة تعيدنا الى النقطة التي بدأنا منها..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية