تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«بيكيت»: رائدالمسرح الطليعي رغماً عنه!! العبث أم ماذا

ملحق ثقافي
7/3/2006م
هدى انتيبا

يجمع نقاد المسرح البيكيتي على أن «صاموئيل بيكيت» مؤلف كوميدي ساخر أولاً وصاحب الريادة في تدشين مسرح اللامعقول في القرن العشرين..

لئن كان »العبث» هو تجريد النص من أي معنى منطقي له إلا أن الفلسفة الوجودية سرعان ما ألبسته حلة القلق والتشرذم والتوتر النفسي عند «هايديغر»-وليصبح عند »جان بول سارتر» غياب إرادة الحياة وعند «كامو» تفسخ الاوضاع الانسانية وعند «كارل جايسبرز»( فيلسوف الوجودية الأول) الفشل الحتمي.. وبتعبير آخر تحولت عبثية الفقر والجوع والموت الى صخرة «سيزيف» كما عرفتها الاسطورة الأغريقية وكرسها عشرات الأدباء في كتاباتهم على غرار «ألبير كامو»..‏

ليتناول بيكيت تلك الاسطورة من حيث يؤدي العبث الى التمرد الاعمى الذي لايشك في غياب أي معنى للحياة نهاية الأمر.. فكلما نظرنامع »بيكيت» الى الأوضاع الانسانية المؤلمة والبائسة والمنيرة للشفقة كالحروب المنتشرة في ارجاء المعمورة والجوع والفقر.. أدركنا أن الحضارات البشرية تذهب سدى وأنها باتت تدفعنا للسخرية من الأقدار التي تتلاعب بمصائرنا.. ألم يقل »بيكيت»:«ما من أمر غريب يدعو للتهكم أكثر من المأساة!! انه الموقف الأكثر إثارة للضحك في العالم»؟! جاءت تلك العبارة على لسان بطل مسرحيته «نهاية اللعبة» المدعو«نيل» حين داعب مشاعرنا وعقلنا بهزلياته الساخرة ومزاحه العبثي..إنها سخرية «بيكيت» السوداء التي تصك الأسنان لدرجة التمرد.. ألم يعتبرها مؤشراً على أن المواقف الدرامية لأبطاله تظل ثابتة ومستقرة لاتتغير رغم تمردها؟ فهي مكبلة على غرار «سيزيف» بقدرها الحتمي بالصخرة التي تنتظر صاحبها ليجرها ثانية الى أعلى الجبل- وأشد المواقف حركة عند «بيكيت» هي حالة«انتظار غودو» أي الانتظار حتى انتهاء المسرحية حين تعيد تلك الحالة المشاهد الى نقطة البداية.. كذلك الأمر بالنسبة للغة هذا الدراماتورجي التي كل اساليب البلاغة والوصف والتندر والمداعبة لتشكل ما يسمى «ولادة اللغة» من هنا جاءت تسمية «بيكيت» بمعلم المسرح الطليعي الحديث- لكن النجاح الذي حققه هذا المسرح لم يثير في اعماقه إلا الريبةتجاه فلسفته حتى غدت روائعه اللاحقة لـ «بانتظار غودو» أكثر تجرداً وعبثية وأصبح جلياً ان لغة مسرحياته تهدف الى التمرد من خلال الصمت رغم ظهورها للوهلة الاولى كثرثرة فارغة من أي معنى والصمت في اعمال«بيكيت» استهزاء وتشهير بالتقاليد الاجتماعية وبالواقع المد لفئة المحرومين والمنبوذين إذ رغم حصوله عام 9691 على جائزة «نوبل للآداب إلا «بيكيت» سرعان ما ابتعد عن الكتابة للمسرح عام 6791 بعد أن قال مايريد قوله في هذا المجال ليتهافت النقاد منذئذٍ على دراسة أعماله وتشريح شخصياته المثيرة للجدل.. وليتنافسوا في تفسير اختياره لشخصيات دونية في المجتمع غالبيتها محطم المكانة الاجتماعية لابل هامشية وصلت الى الحضيض..من أسفل الدوك الاجتماعي التقط«بيكيت» ابطال مسرحياته من عجزة ومعاقين ومتسولين . على خطى من...؟ على خطى صديقه«جيمس جويس» سار«بيكيت» متأثراً بأدب كل من «دانتي» الشاعر الايطالي و«بروست الروائي الفرنسي ليتخصص في نقد كل منهما.. و«صاموئيل بيكيت» من مواليد دبلن 31 نيسان 6091 تحتفل الاوساط الادبية في كل من ايرلنده وفرنسا وبريطانيا بالذكرى المئوية لولادته العام الحالي ينحدر الدراماتورجي من أسرة بورتستنطية معروفة في «دبلن»حيث درس في «الترنيتي كوليج» الأدبين الفرنسي والايطالي.. وفي عام 8291 شغل منصب قارىء للغة الانكليزية في مدرسة أهلية التعليم الباريسية.. وبدأ ترجمة اعمال صديقه «جويس» وبالتعاون مع «ألفريد بيرون» الى لغة «موليير» التي اتخذها أداة تعبيره ليستقر به المقام بشكل نهائي في باريس عام 8391 وكان قد نشر خلال تلك المرحل تراجم كل من «دانتي» و«برونو وفيكو» بعد «جويس» باللغة الانكليزية = ومع قدوم عام 5491 راح يترجم اعماله الى اللغة الفرنسية بعد نظمه الشعر بالانكليزية ثم بالفرنسية إضافة لتأليفه عدة روايات أهمها: «مورفي» عام 1591 رأت أولى مسرحياته «بانتظار غودو» النور عام 3591 رغم رفض مدراء الصالات عرضها قام«روجيه بلين» بإخراجها في العام المذكور لتعرف شهرة منقطعة النظير أصبح يومها »بيكيت» أبرز رواد مسرح اللامعقول ينتمي لعصبة «أندريه بروتون» و«ناتالي ساروت» وكان «روجيه بلين» من أنصار الحركة السريالية الفرنسية أكتشف موهبة صديقه «صاموئيل» بعيد انخراطه في الجبهة الشعبية لتحرير بلاده من النازيين وخلال عمله كمساعد في إخراج اعمال «أنطونان آرتو» صاحب كتاب: »المسرح وظله»... استفاد »بيكيت» من تجارب »بلين» في حقول التشكيل والفن السابع والحركة السريالية إثر تسخير هذا الاخير الرقص الايمائي فالتعبيري في عمليات إخراجه لأعمال »بيكيت» العبثية... حملت «بانتظار غودو» وماتلاها من مسرحيات انتسبت لما يسمى بمسرح اللامعقول لصاحبها جائزة نوبل للآداب عام 9691 ومن عناوينها:«موللي» 0591... «ووفاة مالون» 2591... و«من لم يُعرف اسمه» 3591 و«قصص» 5591 ..و«كيف هذه؟» 1691.. و«المخيلة الميتة» 5691 ...و«رؤوس ميته» 7691... «واط9691»...«الحب الأول» 0791... «همس» 2791 ..«ليس أنا5791» ...«رماد8891» ...«اذهب وعد» 6691... أما اشهر مسرحياته الى جانب «بانتظار غودو» فهناك:»كل الذين سقطوا 7591» «الشريط الاخير» 0691 «الايام السعيدة» 3691 «كوميدي» 3691 وتعري أعمال »بيكيت» باختلاف أجناسها الأدبية الأوضاع الانسانية المتردية غداة الحرب العالمية الثانية واندلاع مايسمى الحرب الباردة.. ألم تتطرق مواضيعها للزمن والترقب والعزلة والموت والضياع وانعدام التواصل وانهيار القيم؟! لكن هذه الطروح ليست هي التي تتميز بها اعماله بقدر ماهي اللغة المستخدمة للافصاح عن أفكاره وهواجسه تلك .. فمسرح «بيكيت» على سبيل المثال يتناول مجموعة من المتسوليين والمهرجين والشيوخ والمرضى.. الذين أصبحوا أكثر شهرة من الملك »لير» أو «هاملت» الشكسبيريين .. لكن تلك الشخصيات لاتخضع للتحليل النفساني بقدر ماهي ظلال وملامح أفراد وأصوات ترمز لظروف اجتماعية وأوضاع إنسانية مهمشة.. إنها أصوات أكثر مما هي شخصيات تنبع تصرفاتها من ضمير حب البقاء.. حتى عندما تتكلم فهي لاتكف عن الحديث والثرثرة وكأن هذا الكلام يعني الاستمرار في الحياة رغم انهيارها داخلياً وخارجياً. مسرحيات إذاعية وملهاة نتوقف عند حفنة من أعمال «بيكيت» الدرامية.. على غرار مجموعته التي تحمل عنوان »ملهاة» وكتبها خلال حزيران 3691 لمسرح »أولمر» الالماني ثم أخرجها «جان ماري سيرو» في فرنسا عام 4691 أبطالها هم رجل وزوجته وامرأة أخرى. يقبع هذا الثلاثي داخل سجن هو عبارة عن ثلاث متشابهة بعد أن سلب ضوء (سلط على وجوههم) ملكة النطق عندهم.. فإذا الوجوه جامدة غابت تعابيرها والأصوات خائرة مبهمة ينتقل الضوء من وجه الى آخر ليحمل أجوبة لاتنقطع يشاهد الجمهور من خلالها صراعاً ساخناً بين المرأتين المتنازعتين على هذا الرجل الحقير.. فقد صدر حكم بحق هذا الثلاثي بالاستمرار في الاعتراف والاجابة على الاسئلة التي توجه إليهم.. الأيام السعيدة ألف «بيكيت» هذه المسرحية بادىء ذي بدء باللغة الانكليزية ثم أعاد كتابتها باللغة الفرنسية وعرضت لأول مرة في لندن 2691 وتتألف من فصلين تبدأ مشاهد »أيام سعيدة» باطلاق إمرأة لعدة جمل استهزائية ساخرة تتخللها لحظات صمت.. تبدو الكلمات وكأنها لاتعني شيئاً لكنها في واقع الأمر ترمز لمآسي الانسانية عبر العصور فبطلة هذا العمل وتدعى: «ويني» لاتملك سوى امكانيات محدودة أسوة بشخصيات مسرح بيكيت تستيقظ كل صباح على صوت رنين الساعة وعند المساء يخبرها المنبه من جديد ان وقت النوم قد حان تتحرك «ويني » ذات الجذع النصفي والزوج العبثي والتي تفخر بامتلاكها كيساً أسوداً ضخماً يحتوي قصاصات من حياتها الضحلة على وقع الساعة الموقوتة لتعمل على قتل الوقت جيئة وذهاباً... فهي لاتشعر بالتعاسة لأنها لاتزال تحتفظ بزوجها الذي يستجيب لطلباتها وبكيسها الاسود حيث ترقد ذكرياتها . نهاية اللعبة عرضت هذه المسرحية عام 7591 في «استوديو الشانزيليزة» أخرجها «روجيه يلين» لتذهب أبعد ما ذهبت اليه: «بانتظار غودو» في وصف مآسي الحياة في أوروبا مابعد الحربين... تدور أحداثها في منزل فارغ من الأثاث يتسلل اليه الضوء من نوافذ شديدة الارتفاع تتراىء خلفها سماء رصاصية اللون وبحر جامد الحركة يدعى بطل هذا العمل البيكيتي «هام» وهورجل أعمى معقد يجلس فوق كرسي متحرك ويشعر بالملل يسعى«هام» لاضفاء جو من التسلية على المنزل من خلال سرده بصوت مرتفع لقصص يتخيلها.. لكنه يجد صعوبة في تصديق ما يرويه لذلك لاينفك يرهب خادمه «كلوف» بأوامره ونواهيه فالخادم لم يفقد بصره ولاقدرته على الحركة يطلب منه »هام» للمرة الألف تحريك الأغراض ذاتها من مكانها كإبعاد الكرسي. شريط «كراب» الأخير هي مسرحية بيكيتيه تتألف من فصل واحد نشرت عام 8591..يقتصر حوارها على تبادل عبارات جاهزة ليس إلا ... بطلها رجل أصبح حيواناً يكلم آلة معدنية... غاب العنصر البشري عن هذا العمل كلياً حتى الحياة البائسة في مسرحية «بيكيت» السابقة: «نهاية اللعبة» تجاوزها الأديب في «شريط كراب الأخير» لكن من هو »كراب» ؟ إنه ر جل مصاب بقصر نظر يجلس بمفرده داخل دائرة ضوء تزداد سطوعاً تحيط به عتمة محببه اليه يصغي «كراب» السمع لشريط تم تسجيله قبل ثلاثين عاماً من الآن عندما كان في التاسعة والثلاثين من عمره.. ومأساة «كراب» هي مأساة الانسانية جمعاء كما يقول »بيكيت» من خلال هذا العمل.. لكنها ليست مأساة نتيجة تحولنا كبشر على مر الأيام لنغدو مالم نكن عليه في الماضي وإنما لأننا الآن الاشخاص ذاتها التي لن يتغير كيانها مهما كبرت والحيوان لايعي المتغيرات لأنه لاتحدث في حياته مستجدات تذكر.. «بانتظار غودو» أولى مسرحيات «بيكيت» الناطقة باللغة الفرنسية نشرت عام 3591 وقدمت على خشبات العالم كافة صفق لها جمهور متعدد الجنسيات لتحمل لكاتبها المجد والشهرة دفعة واحدة.. تجري أحداثها إذا صح التعبير في ركن من الريف حيث لاوجود إلا لشجرة تدل على هذا المكان.. أما زمانها فهو قدوم الليل ببطء في تلك البقعة حيث ينتظر متسولان ذاك المدعو »غودو» ولايعرف المتسولان «غودو» أو لماذا ينتظرانه... فما يأملانه من هذا اللقاء غامض ومبهم... الشيء الوحيد الذي يؤكد وجودهما في الواقع هو أن »غودو» وعدهما بالمجيء... هذا الترقب يستخدمه الثنائي كذريعة للبقاء معاً حتى هبوط الظلام والحيلولة دون شنقهما لنفسيهما وبالتالي يعملان على تمضية الوقت المتمرد الذي يمر كما يريد.. زمن عربيد يملك حس التناقض يعبث ويتأخر عند ما يُطلب منه الاسراع بالمجيء.. وكأن الزمن يشعر بسعادة لوجوده بصحبة هذا الثنائي المتسول الذي يفتقد للمخيلة والابداع ليطل السؤال: متى ستنتهي تلك الامسية ومتى ستدق ساعة ظهور »غودو» ؟؟يتلكم «إيسترادون» المستول مع زميله «فلاديمير» كثيراً عن هذا الغائب الحاضر الذي يشكل موضوع الحوار هما الوحيد (غودو)حتى ليبدو للمستمع أنهما يستجوبان الصدى أو الصحراء الجرداء التي تحيط بهما لتضيع أصواتهما في الفراغ وقد غرق الصدى في رمال الزمن المتحركة ..ثم يسأل كل منهما الآخر: لماذا إجتمعا معاً؟ ربما بحكم العادة رغم انهما يشعران بالضيق من الوجود.. فلم يعد «فلاديمير» يطيق البقاء الى جانب «ايسترادون» ... لكن لن ينصرف كل منهما في حال سبيله..لقد التقيا مرة ثانية بفضل عادة البقاء والتساؤل مجدداً حول تعاستهما وفراغ حياتهما وذكرياتهما.. من هنا جاء حوارهما الممل الذي يسير على نمط رتيب.. فرغم تكرار عباراتهما إلا أن »بيكيت» لايصل الى طريق مسدود لابل يظهر إبداعاً في إثارة السخرية والإضحاك كما وان غياب الحبكة المرتبطة بتفعيل الأحداث لاتلغي التنويع والتصعيد من خلال دخول ثنائي جديد آت من الصحراء على غرار «فلاديمير» وزميله الى الخشبة ويتألف هذا الثنائي من سيد وخادمه... ويعامل الأول الثاني بأسلوب وحشي إذ لايكتفي بإلقاء عظام الدجاجة التي كان يأكلها لهذا الخادم وإنما يضربه بطريقة غير إنسانية..ويغمز الكاتب من خلال هذا المشهد إلى استغلال الانسان لأخيه الإنسان... يظل هذا الثنائي لبرهة على الخشبة ليثير دهشة المتسولين قبل انسحابه ثم يخيم الصمت من جديد بين «فلاديمير» و«ايستراغون»... وسرعان ما يدخل مراسل يحمل خبراً مفاده ان «غورو» لن يأتي هذا المساء وإنما غداً.. يحل الغد لتعود الأمور الى ما كانت عليه .. إذ يمر من جديد عابرا السبيل السيدوخادمه لكن شيخوخة واضحة المعالم ضربتهما الآن.. فالسيد الاستبدادي أصبح أعمى والخادم أبكم أما «غودو» فقد أرسل يعتذر انه سيأتي غداً.. ومن الطبيعي أن يثير هذا العرض المسرحي الجديد في طروحه وأسلوبه الانتقادات في بادىء الأمر ثم الاعجاب.. فقد استبعد »بيكيت» الصراعات النفسية والسوسيولوجيةو السياسية والأساليب الغنائية والملحمية القديمة ليبتدع طريقة مبتكرة في طرح أفكاره الثورية.. أليست مسرحية «بانتظار غودو» ثورية رغم كلاسيكيتها؟ فالأجواء الغرائبية وغير المألوفة فيها تثير الشفقة والأضحاك والسخط حتى التمرد والألم واليأس.. وهي مبادىء فلسفية لبست ثوب العبث واللامعقول لتتغلغل في تفاصيل حوار يبدو عقيماً بينما هو مدجج بالسخرية والاستنكار والإدانة المبطنة..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية