والذي عرض على صالة مسرح القباني بدمشق عائداً بذاكرته نحو لحظات ما قبل الموت ينشىء عالما تواصليا بدأه بالحاضر متجليا بشخصية من لحم ودم في مقابل اعمدة تراثية تجسد افلاطون وكريتون وقد شغل الفضاء المسرحي دلالات اخرى استكملت الشروط التاريخية لعالم العرض المفترض الذي أرسى خطوطه الاساسية بين ايدينا وعاد حيث اغتيل المنهج العقلاني الانساني منذ ذاك الزمن فصاعدا بعد محاكمة سقراط واجباره على تجرع السم بتهمة تحريض شباب اثينا على السؤال الذي يعني عند هؤلاء الحكام المعارضة ويعني الكشف عن ظلمهم وادانتهم فالسؤال محكوم عليه ابدا ان يبقى سجينا وقد دفع سقراط ضريبة ثقافة السؤال منذ الزمن السحيق والتي تستبطن حالة الحرية والجمال بامتياز بعيدا عن الاستكانة ومداهنة الطغاة والحكام الظالمين في عرض (كأس سقراط الاخيرة) قدم المسرح حقائق يفك طوقها بجرأة تصرح عن نفسها على لسان سقراط عندما يعلن عن تنازل افلاطون لارضاء الحكام على حساب المبادئ والقيم الانسانية الحقيقية والمنطق العقلاني السليم, كي تبدو كل تلك المنجزات الفكرية اللاحقة قد بنت نفسها على تلك الجريمة.
لون (زيناتي قدسية) عبر ( مونودراماه ) الجديدة في حالات ادائىة متنوعة مظهرا لحظات انسانية كثيرة في الاكتشاف الى التحدي البحث والحزن وغيرها بحيوية منقطعة النظير اذ حمل اعباء عرض بأكمله ورغم ذهنية الطرح والصراعات الفكرية الدائرة والحاضرة في فضاء العرض إلا انه ربطها بحالات انسانية وحياتية عبر تلك التجليات الفاصلة بين الحياة والموت ليكون الطرح معيارا ابديا يتغنى بأهمية السؤال من اجل الحقيقة والحرية والمعرفة للبشرية جمعاء للتاريخ وللحاضر ايضاً.
حول العرض واسلوبيته قال الممثل والمخرج زيناتي قدسية وان تحدثنا عبر العرض عن مشكلة وقع فيها سقراط الفيلسوف فمن الممكن انه قد اوقع البشرية كلها في مشكلة كبيرة اذ يحاول العرض ان يسبر اغوار هذا التاريخ الذي وردنا مستنبطا بعض الاستقراءات والتي تولد اسئلة مشروعة وباعتقادي ان خشبة المسرح او الفن والدراما يملكون الاهلية لتوليد مثل هذه الاسئلة للكشف عن الحقائق او ما نعتقدها حقائق في الواقع على الرغم ما يكتنفها من الريب والشكوك فالعرض دعوة لاعادة قراءة التاريخ لنا ولغيرنا وندقق في قضية الديمقراطية وهذا الاستبداد الذي تنتهجه دول المركز, ولهذه النتائج التي نشهدها عالمياً مقولات لها مقدمات في دول أوروبا وأمريكا وهذه المقدمات لها جذورها التاريخية العميقة وعلى رأسها ديمقراطية ( أثينا ) من هنا نريد ان نطرح الاسئلة لكل الناس وفي مناطق مختلفة من العالم, فإلى أين توصلنا هذه الانماط الديمقراطية..?
وعن الناحية الفنية والرؤية الاخراجية أكد الفنان قدسيه في مسيرة متابعته فن المونودراما بمشاركة الكاتب موفق مسعود منوهاً أن الرؤية الاخراجية في العرض هي مساندة المادة النصية في البحث والكشف والتطويع لتقنيات فنية لتقديم المتعة والجمال وكل ما يمكن ايصاله عبر تلك الصيغة الفنية الخاصة.
وتابع الفنان قائلاً:إن الاخراج كشف المخبوء في النص وتطويع اللغة الفنية وعناصر العرض كافة لكشف المساحات الصعبة منه, إذ انني لا أحب النصوص السهلة, وفي اعتباري لا قيمة للنص في عالم الفن ما لم يكن صعب المراس.
وحول المعاصرة وراهنية المقولة قال كاتب النص الاستاذ موفق مسعود: هواجس هذا العمل هي هواجس معاصرة بامتياز , ومن البديهي أن تكون الاسئلة معاصرة, خصوصاً أننا نرى كل هذا الخراب في عالمنا الروحي والانساني ومحيطنا أجمع,حيث نعود من حاضرنا إلى افلاطون الذي أخذ عن روح سقراط الذي عشق أثينا والجمال والتقدم,كي يصوغ مدينته الفاضلة ذات الفكر السلطوي الواحد - المغطى بفكرة تعددية,لنتأكد ان كل التشريعات الحالية بنيت على جذور ينخر فيه السوس, والكشف عن حقيقة كل ديمقراطيات الحاضر استندت إلى النتاج الفكري لهزيمة ديمقراطية أثينا ومدينة أفلاطون الفاضلة فسؤال الحرية هو سؤال دائم والفن حقيقة هو من يملك المقدرة على صوغ التاريخ الحقيقي لكن اشكالية واضحة في ثقافتنا العربية تمنع هذه الآلية الناضجة, فالمقاربة محظورة إلا من التاريخ الرسمي في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة إلى المبادرات الاكثر عمقاً في قراءة الواقع.
ويمكنني القول من جهة أخرى بأن العرض المسرحي (كأس سقراط الاخيرة) يطرح أسئلة مهمة بعيداً عن دغدغة المشاعر السطحية للمتلقي, ومعتمداً على متعة التفكير ومتعة السؤال.