حيث وجدوا داخلها 39 محارة حلزون صغيرة بحجم حبة الحمص، مخرمة بعناية بغرض تقديمها كهدايا تعلق كقلادة. وأثبتت الفحوصات المخبرية أنها تعود إلى خمسة وسبعين ألف سنة خلت خلال العصر الحجري الوسيط.
ويقول آلان ووكر وبات شيبمان في كتابهما «البحث عن أصول الإنسان» إنه منذ ذلك التاريخ هناك انفجار للفن والزخرفة والتبرج والوشم كوسائل لإبراز التميز خصوصاً عندما بدأت التجمعات الإنسانية تتكثف. وكذلك كعلامة للانتماء إلى مجموعة أو أخرى مختلفة. ويعلق «راندال وايت» من جامعة نيويورك إنه في هذه المناسبات التبادلية المتقطعة للمعرفة والتكنولوجيا وكذلك للجينات من خلال تبادل الزيجات، ظهر الإهداء كواحد من التعاملات التي ترمز إلى الالتزامات المتبادلة التي بدأت تتأسس وتتقونن.
جاء في ملحمة «جلجامش» السومرية القديمة، التي تعود إلى حوالي أربعة آلاف سنة ما يلي: «فتح جلجامش فاه وأجاب عشتار العظيمة: إذا تزوجتك أية هدايا يمكن أن أقدمها لك بالمقابل؟ أية دهون وأية ملابس لجسمك؟ سأكون فرحاً اذا أعطيتك خبزاً وكل أنواع الطعام الذي يليق… سأفرغ الشعير في صوامعك».
ويصف تشارلز ديكينز في إحدى رواياته الحياة التي تخلو من العطاء والكرم بالعاقرة روحياً. وهذه حال أحد أبطاله «أبينيزر سكروج» الذي يجلس على ثروته متهرباً من العطاء، واصفاً إياه بالفقير الحقيقي وبغير الإنساني. بينما الموظف الفقير «بوب كراتشيت» مستعد لإهداء القليل الذي يملكه حتى إلى صاحب عمله الوضيع، هو الغني الفعلي. لكن في النهاية عندما يقرر «سكروج» العطاء يستعيد إنسانيته.
تقاليد مختلفة لتقديم الهدايا
تختلف تقاليد تقديم الهدايا وتسلمها من مجتمع إلى آخر. ففي الثقافة الصينية واليابانية تكون الصفة الجماعية والاحتفالية في تقديم الهدايا هي الغالبة. بينما في الثقافة اللاتينية والأنكلوساكسونية فإن العلاقات الشخصية هي السائدة.
تقتضي التقاليد الصينية للهدايا الامتناع عن قبول الهدية لثلاث مرات. وذلك لدحض أي شعور يمكن أن يخالج الطرف الآخر بوجود طمع ما. وعلى مانح الهدية في كل مرة أن يواصل بإصرار تقديمها بلطف. ويجب أن تُقدَّم باليدين الاثنتين وأن تكون الهدية ملفوفة بورق خاص. وفي النهاية تقبل الهدية وتوضع جانباً دون أن تفتح أمام المانح تجنباً للحرج الذي يمكن أن يظهر على وجه المقدم إليه. الرموز في الثقافة الصينية مهمة جداً.
الألوان والأرقام لها معانٍ خاصة
ففي رأس السنة الصينية يجب أن تُهدى الأموال في مغلف وأن يكون عددها مفرداً. أما في اليابان فإن تقديم الهدية هو شكل من أشكال الفن. فالاحتفالية والمظهر الخارجي يُعدان أهم من قيمة الهدية نفسها. لكن هذا يُعد في المجتمعات الغربية مبالغة غير مفيدة.
وفي البلدان العربية تختلف أشكال التقديم والتسلُّم بشكل كبير وفق البيئات المختلفة حتى على نطاق ضيق. ولكنها عموماً تتراوح ما بين فتح الهدية أمام متسلِّمها، وما بين إحجام هذا عن فعل ذلك أمام المانح. والرائج أيضاً، أن يترافق ذلك مع بعض عبارات المجاملة من قبل المتسلِّم تتضمن لمسة مبالغة في تقديره لقيمة الهدية.
مع توسع العولمة وتشابك العلاقات الدولية على صُعُدٍ عدة، ازداد احتكاك القيم الثقافية المختلفة بعضها مع البعض الآخر. لهذا السبب أنشأ كثير من الشركات أقساماً خاصة لدراسة كيفية التعامل مع ثقافات غريبة عما هو سائد في بلدها المنشأ.
وفي حادثة ذات مغزى أرسلت إحدى الشركات الأمريكية عدداً من الساعات التي توضع على المكاتب كهدايا لزبائنها حول العالم. لكن الذين تسلَّموا هذه الهدايا في شرق آسيا أبدوا كثيراً من الاضطراب. إذ تبين أن كلمة «ساعة» تعني بالصينية شيئاً قريباً من «موت» وهي بذلك ترمز إلى النية بإنهاء العلاقة وليس تعزيزها. وهذا بالطبع ليس غاية الشركة المرسلة التي اضطرت إلى استرجاع هداياها واستبدلت بها أخرى مناسبة.
ترك هذا التبادل الثقافي أيضاً أثراً على طريقة تبادل الهدايا. فتقديم الهدية باليدين الاثنتين لم يكن سائداً في الولايات المتحدة الأمريكية. أما اليوم فإن كثيراً من المهتمين وواضعي قواعد إتيكيت الهدايا في أمريكا يشددون مثلاً على ضرورة تقديم الهدية باليدين الاثنتين. ويشيرون إلى أن المتسلِّم أيضاً عليه مد يديه الاثنتين لأخذها متأثرين بذلك بعادات بلدان شرق آسيا. كذلك فتح الهدية مباشرة عند تسلّمها وأمام أناس آخرين كما هو سائد في الولايات المتحدة وأوروبا، بدأ يتغير متأثراً بثقافات أخرى. كما أن بعض العادات اليابانية كربطات الهدايا البسيطة والأنيقة وتجنب الألوان الحادة، بدأ تأثيرها يتسرب إلى كثير من البلدان الغربية.