صحيح أن موضوع (الإرهاب) اتخذ في مطلع الألفية الثالثة بعد أحداث 11 أيلول أبعاداً محددة,وأن الولايات المتحدة الأميركية خاضت باسم (محاربة الإرهاب) حروباً خاطئة في أفغانستان وفي العراق,ولا تزال تلوح بلغة إرهابية بخوض حروب أخرى في المنطقة العربية,وفي العالم الإسلامي.إلا أننا لا نجد في الأدبيات الإيديولوجية والمواقف السياسية التي استعملت كغطاء للحروب الحاصلة أو المحتملة الحصول,تحديداً دقيقاً لمعنى (الإرهاب),فقد تم تشخيصه في أسماء تحيل إلى أشخاص وعقائد وخيارات سياسية وجغرافيات محددة,كما تم رسم خطط في المدى القريب والمتوسط بهدف القيام بما سمي (تجفيف منابع الإرهاب) من دون أن يكون هناك أي اتفاق أو توافق حول طبيعة الإرهاب وأصوله وكيفية محاصرته.
ليس من المستغرب والحالة هذه أن تأتي نتائج الحرب الأميركية ضد (الإرهاب) لتعكس الإفلاس السياسي والانحطاط الأخلاقي معاً لمنظريها ومخططيها وممارسيها.فبالرغم من مليارات الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة ولا تزال تنفقها مع حلفائها من الدول الصناعية للحد من (الإرهاب العالمي) لم يتقلص حجم التهديدات الناشئة عن (الإرهاب).ولكنه تفاقم كما لم يحصل في أية حقبة سابقة.والانحطاط الأخلاقي,لأن أنصار الحرب العالمية ضد (الإرهاب) يجدون أنفسهم مضطرين إلى القبول بمعايير سلوك كانوا قد جعلوا من وضع حد لها المبرر الأخلاقي للحرب.وتشعر قطاعات متزايدة من الرأي العام العالمي بأن حرب (الإرهاب) تقود بصورة متزايدة نحو القبول بانتهاكات الحقوق الإنسانية,وتبرير ممارسات لا أخلاقية ولا إنسانية سواء ما تعلق منها بالقتل الجماعي والتمييز العنصري,والتلاعب بالقانون كان من الصعب السماح بها من قبل.
وإذا قمنا بإجراء حسابات دقيقة,وأخذنا بعين الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة,والتكاليف المستقبلية,والتكاليف المادية والمعنوية معاً,والتكاليف الداخلية والخارجية,والتكاليف السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية والتربوية,والتكاليف المباشرة والمستترة,فسوف نجد أن الحرب على الإرهاب قد ألحقت بالولايات المتحدة أضراراً قد تفوق تكلفتها تكلفة بعض الحروب التي خاضتها منذ نشأتها.
لقد قامت الولايات المتحدة بإجراء تغييرات هيكلية في الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والإعلامية والتعليمية والتربوية,ولكنها في الوقت ذاته لم تقم بإجراء تغييرات هيكلية في فهمها للإسلام ورسالته السامية بشكل عميق ومتوازن مع تلك الأحداث والتغيرات,وإن كان الشعب الأميركي قد ازداد سعيه وميله تجاه فهم الإسلام,بيد أن تلك تظل جهوداً فردية وليس عملاً سياسياً منظماً.والآن وبعد مضي أربع سنوات على أحداث أىلول وما أعقبها من حروب ضد (الإرهاب) ألا يجدر بعقلاء الولايات المتحدة والغرب عموماً وراشديهم ونخبهم السياسة ومثقفيهم أن يقفوا مع أنفسهم وقفة محاسبة دقيقة ويزينوا أعمالهم بميزان التكلفة والعائد المادي والمعنوي والأخلاقي والحضاري,ويعيدوا قراءة التاريخ.
ولا نبالغ في القول إن مصير المنطقة التي أصبحت مسرحاً لحرب عالمية تقودها الدول الصناعية الكبرى ضد (الإرهاب) يبدو اليوم أكثر من أية حقبة سابقة,معلقاً على رؤية هذه الدول لواقع المنطقة وتصورها لدورها وموقعها في التحولات العالمية والمكانة التي تريد أن تعطيها لها في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية.هل ستظل كما كانت في السابق /هيئة منطق تأمين الطاقة العالمية المضمونة والرخيصة وتنظيم سوق النفط من جهة ومنطق الفراغ الاستراتيجي الذي يشكل الحزام العازل الذي يحتاج إليه لضمان السلام والتقدم والازدهار في (أرض إسرائيل الكبرى) من جهة ثانية,أم سيكون مصيرها المشاركة,حسب إمكاناتها وموقعها,في النشاطات الدولية إلى جانب الدول الأخرى النامية وغير النامية,ويتطلب بالتالي تثمير مواردها البشرية والطبيعية وتأهيلها للاندماج النشط والمنتج في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية الدولية,وتحمل المسؤوليات التي تقع على كاهلها في إطار بناء أية سياسة عالمية?!.
إذا كان الخيار الأول هو المقصود,فلن تكون الحرب العالمية المعلنة اليوم على تراب العرب ضد (الإرهاب) سوى مقدمة نحو محاصرة هذه البقعة من العالم بصورة أشد,وتعزيز تهميشه وفرض الوصاية والحماية عليه,وتركه مسرحاً سائباً للنزاعات التي تفتك بشعوبه وتشل إرادة مجتمعاته,وفي موازاة ذلك وبالارتباط بهذه الأهداف,تدعيم أنظمة القهر والاستبداد والعنف الأعمى التي لا يمكن من دونها ضمان مثل هذا التهميش والوصاية الخارجيتين.أما إذا كان الخيار الثاني هو المقصود,فسيكون من الضروري تبني سياسات عقلانية وبناءة تعزز قدرة العرب على الانتقال,كما يحدث في أميركا اللاتينية منذ ثمانينات القرن الماضي,من سياسات السيطرة والعزل والتهميش نحو سياسات قائمة على خلق الفرص الجديدة والآمال,أي في النهاية على السعي إلى دمج الشرق الأوسط بعالم عصره,وإخراجه من حالة اليأس التي تقوده إليها سياسات نخب ديكتاتورية ومصالح عالمية قائمة على ضمان الاستقرار الشكلي من دون مراعاة لأية مبادىء سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ولأية معايير قانونية.وبقدر ما سيدفع الخيار الأول إلى تفاقم أزمة العالم العربي وتعميق إحباطاته,سوف يزيد من احتمالات النمو المتجدد لحركات العنف و(الإرهاب) التي تصعب السيطرة عليها.وبالعكس,بقدر ما يؤدي الموقف الإيجابي إلى إخراج العالم العربي من أزمته التاريخية ويفتح آفاق التحولات الديمقراطية فيه,يعزز من احتمال نمو قيم الحرية والمساواة والعدالة والإنسانية ويهمش مجموعات (الإرهاب) ويعزلها ويجعل من نشاطاتها غير منتجة وغير قادرة على تأمين أي تعاطف معها,أي يجفف الينابيع التي تستقي منها ويجعلها تذبل وتختفي من تلقاء نفسها.
وللأسف,ليس هناك بعد ما يدل على أن سياسات الحصار والهيمنة والتسلط وتقاسم النفوذ قد تراجعت أو هي في طريق التراجع في الشرق الأوسط,ولا على أن الأمل يزداد بإمكانية السير في طريق التعاون مع العالم الصناعي للخروج من الأزمة.بالعكس,إن جميع الدلائل تشير إلى أن طريق الآلام لا يزال هو الطريق الوحيد المفتوح,مع ما نشهده من تكالب الدول الكبرى على تقاسم مناطق النفوذ والصفقات التجارية,وخطب ود النخب الفاسدة,وما نعانيه من تفاقم العنصرية الاجتماعية,وتنامي الاعتقاد لدى الأوساط الرسمية والشعبية في عموم البلدان الصناعية بأطروحة وجود هوة ثقافية لا يمكن ردمها بين الإسلام والثقافة العصرية,وبأن الحرب بين عالم الإسلام,وعالم الغرب حتمية,سواء أسميناها حضارية أم همجية!!.