ربما.. كانت هي لعبة القدر.. الحظ.. الزمن.. ما جعل ثاني عمل لـ(جوزيه ساراماغو)، يلقى مصير الضياع.
كتب الرواية مابين أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.. تسلّمتها إحدى الجهات لأجل إصدارها عام 1953.. فكان أن ضاعت ليتمّ العثور عليها عام 1989..
بقيت «المنور» مدة (36) سنة بحكم الضائعة وبقي ساراماغو، بعد العثور عليها، رافضاً فكرة نشرها في حياته.. لتقوم (بيلار دل ريو)، رئيسة مؤسسة جوزيه ساراماغو وأرملته، بنشرها.. مؤكّدةً أن ما أراده يتمثل تماماً باستمرارية أن يشاركنا ما لديه بعد غيابه عن الوجود.. ولعله أراد بهذه الحركة الظهور من بعد الغياب.
في مناخات ذاك الزمان تتجوّل الكثير من أفكارالرواية.. تنقل برويّة تفاصيل حيوات أناس يسكنون عمارة واحدة..
هل يُذكّرنا هذا بـ(عمارة نيس) للفرنسي ميشيل بوتور.. أو بـ(عمارة يعقوبيان) للمصري علاء الأسواني.. حيث تتشابك مصائر أفراد وتنفصل.. وكما لو أنها شريحة مجتمعية مصغّرة عن المجتمع بعمومه.. ؟
ما يرصده قلم ساراماغو هومجتمع مدينة لشبونة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.. السنوات التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.. زمن حكم سالازار الديكتاتور.. دون أن يتورّط العمل بأبعاد سياسية مباشرة.
يلتقط حالة «التحوّل» التي بدأت لدى الأفراد.. من حيث العادات والأفكار المتحفّظة.. وللدقة فترة ما قبل «التحول» في ذهنية الناس وطرائق تفكيرهم.. ولعلها ما كانت تُحسب (تحولات) لولا موقعها الظرفي الزماني.. أي ما بعد الحرب.
يتشابك عمله، بغالبيته، وفق ثنائيات تتحاور.. تتقاطع حيواتها ومصائرها.. لتتباعد أو تتقارب.. تتوافق أو تتناقض آراؤها.. تحب أو تكره.. تتنافر وربما تتجاذب.
وعلى التوالي تصوّر عدسته يوميات تلك الأسر التي تسكن العمارة، مكان الأحداث، فيتنقل بين بيوتهم ويسمعنا أصواتهم.. حواراتهم.. أفكارهم. يجول في العوالم الظاهرية والمخفية لشخصياته.. تقلباتها.. جنونها.. صراعاتها مع ذاتها ومع «الآخر».
ثمة ذاك «الآخر» دائم الحضور في العمل.. وكأنما أراد الروائي الإيحاء أن الكون عبارة عن ثنائيات.. مع أن ناشرته تلمّح في تقديمها هذه الرواية أنها «تتجاوز القيم السائدة، وترى في الخلية العائلية أحياناً مرادفاً للجحيم وليس بالضرورة ملاذاً للطمأنينة».. وهو ما يفسّر جعل ساراماغو بعض ثنائياته، الأزواج، في حالة صراع.. وعدم وفاق.. كما في تصويره الحال ما بين كل من السيدة كارمن وزوجها إميليو.. وأيضاً ما بين جوستينا وزوجها كايتانو كونيا.
يتوغّل الكاتب في بنية مجتمع لشبونة.. يرصد.. ويصوّر التقلبات الذهنية والفكرية كتوطئة لتبدلات وتحولات في كثير من المفاهيم.. يستقرئ ما يمكن أن تغدو عليه الحال.. مجتمعياً.. قبل أي شيء آخر..
هل هي ملوثات «الحرب» التي أدت إلى ظهور الكثير من المفاهيم الجديدة وتبدّل بعضها، في العقلية الأوروبية وفي مقدمتها تقديس حرية الفرد.. والحياة الفردية.. مع أن الرواية لا تلامس أجواء الحرب أبداً.. سوى في مقاربة حياة إحدى الشخصيات «سيلفيستري» الذي ناضل في شبابه دون تحقيق هدفه.. شبابه الذي عاصر فترة الانتقال إلى الجمهورية والأحلام الكبيرة.
إلى عمق الشخصيات يهوى ساراماغو الغوص بعيداً.. فيُظهر لنا دواخلها ودنياها النفسية.. لهذا يمكن أن تكون دلالة «المنور» ليست متأتية من المعنى الظاهر للكلمة.. أي (منوَر) العمارة الكائن في وسطها على الأغلب.. يتوسطها فيستجر معه النور والضوء.. ربما أراد اعتباره (منوراً) لذوات شخصياته.. يُطلعنا عليها من الداخل.. يفلش أمامنا أسرارها.. أفكارها.. وبالتالي هو يضيء (جوانية) أبطاله.. يخوض في عوالمها النفسية.. وأيضاً الفكرية كما يتجلى ذلك من خلال حوارات كل من «أبيل»، الشاب الذي أستأجر غرفة في شقة «سيلفيستري»، وهذا الأخير.
آخر عبارة يأتي بها الروائي على لسان «أبيل» تكون: (الزمن الذي يمكن أن يكون الحب فيه أساس كل بناء لم يحن بعد).. هكذا كان أن ضاعت الرواية مدة (36) عاماً ليبقى هذا الزمن وكأنه لم يأتِ بعد.