والعقل كذلك سيكون المنتج الأكبر لهذا الدماغ العظيم ومن طبيعة الأشياء أن تجري العمليات الذهنية داخل هذه المادة البالغة شأواً رفيعاً من التنظيم لكي ينتج عنها شأوٌ رفيعٌ من النظر والاستبصار والمحاكمة والقرار.
أما حينما يقدم الدماغ رؤاه من غير علم ومعرفة وحكمةٍ وتبصُّر فلا بد والحالة هذه أن يكون الدماغ قد توقف لدى من لم يُعْمِلْهُ ويَعمل به عند حدود ما رُتِّب له وترتّبَ عليه. نصل بمثل هذه الصورة المنوّه عنها إلى العقل المغلق الصادر عن الدماغ المُستغلِق وكأننا لا نفهم الوجود من حولنا بما هو موجودٌ فيه والوقائعَ التي تكتنفنا بما هو واقعٌ فيها, وعليه يتمُّ احتباس المَعْني في دائرة الخارج ويتمُّ قطع الصلة بينه وبين الوطن ليكون ناطقاً باسم الأعداء أكثر من مسؤولٍ في وطنه عن الأجواء.
وقد علمتنا تجربة التاريخ في بلادنا كما عند الأغيار أيضاً أن الحاصل التاريخي لا يجوز إلا أن يبقى أمامنا في حقل البحث العلمي والسياسي والفكري, وحين نقطعُ بيننا وبين ما نتج عن تاريخ الناس من محصلات وندّعي أننا ندركُ الشؤون والعلل والسببيات فهذا ادعاء باطل ومكشوف ورؤيته فقيرة،وهو لا يصل إلى أي شأن من شؤون التقدم. ومن تواريخ الأمم التي منها أمتنا العربية أن العقل قد يُؤجَّرُ, والدماغَ قد يُستأجرُ حتى يعمل لصالح الغير ولحسابه, ولو لم يكن ذلك كذلك هل سمعنا مقولة إن بغداد تكفيني ولا يستكثرونها عليَّ « أو سمعنا مَنْ قالت في الأندلس: إبكِ مثل النساءِ ملكاً مضاعاً » أو سمعنا بعد حرب تشرين التي أعادت العرب إلى مسرح التاريخ والقوة من قال: إن أوراق اللعبة كلها بيد أميركا ولا بد أن نتحول باتجاهها ا ثم وقعَ كامب ديفيد وملحقاته السرية المعروفة.
وهانحن اليوم نعود لنرى على الأرض المعنية ذاتها - رغم الربيع المزعوم- من يُعلن عن احترامه لما ورثه من معاهدات كامب ديفيد وملاحقها ولو عطّلت هذه الأخيرة سيادة بلده وقيم استقلالها, ثم يرى نصف شعبه في ساحات عاصمته ومدنه ضده ولا يفترض أن هذا النصف هو الشعب, فالشعب مفهوم مطاط لديه نسبيٌّ على مزاجه فيمكن له أن يُطلق على خمسة بالمائة إذا أُمرَ مفهومَ الشعب, كما يمكن له أن يتجاهل الخمسة والتسعين بالمائة من مفهوم الشعب حين تكون الأوامر قد اقتضت ذلك وعندئذٍ سيبقى شعبنا بإرادة أوامر أعدائنا خارج حقل وجوده ومعاني إرادته وأشكال طموحه ومشاريعه. إن أمراء الأندلس المتجددين في الزمن العربي الرّاهن لايرون مفهوم الشعب إلا كما تُلقّنه لهم الثقافة الأمروصهيونية والأهداف الخاصة بها.
وفي هذا السبيل لا يُسمح لهؤلاء الأمراء المعنيين بأن يستخدموا الدماغ الذي في جماجمهم ويُفرض عليهم أن يواصلوا تأجير العقل والدين والإرادة والسيادة والاستقلال, لكي تُنجزُ المشاريع الصهيوأمريكية في بلادنا ويتم التمكين لها, وعلى هذا النحو نجدهم غير مهتمين بما تفعله إسرائيل حول تهويد الأرض والتاريخ والمقدسات وحول نياتها البيِّنة لهدم المسجد الأقصى, ثم سعيها لتفكيك الجغرافيا العربية المقاومة وإدخالها في إمارات وكانتونات ممالئة ومتنافرة. نعم إن البوصلة الصهيوأمريكية هي التي تشير إلى أدمغتهم وعقولهم للاتجاهات المطلوبة منهم والعروبة ليست الشمال المغناطيسي لهذه البوصلة, وفلسطين أيضاً لا تعنيها في أي تحديد للاتجاهات في التفكير والتدبير, فالمهم عندهم هو ما أمروا به وتدربوا عليه في أن يتجاهلوا إرادة الشعب الكلية ويأخذوا بإرادة فئة باسمه ليُشكروا بربتةِ الكتفِ من الكفِ الصهيوأمريكية.
لقد مر في تاريخ البشرية المعاصر زمن سمي بزمن رياح التغيير الدولية وقالوا عن هذا الزمان سوف يُحسّن النظام الدول ويُنهي صراعات الشعوب والأمم والاستقطاب الدولي بينها ليدخل الإنسان في إهاب عصر التكامل والتعاون وتبادل المنافع, لكن ما حصل عكس ذلك تماماً حيث هُدم النظام الاشتراكي العالمي ولم يُبنَ نظامٌ دولي جديد وبرزت إسرائيل المستفيد الوحيد من كل رياح التغيير المزعومة خاصة حين خسرنا نحن العرب الحليف الدولي الذي كان يساهم في توازن القرار الدولي نحو العدل. وظلت أميركا طيلة هذا الزمن تمارس طغيانها على القرار الدولي وتحمي إسرائيل وتحضر لها شروط الدولة اليهودية كل ذلك قد حصل تحت مصطلح رياح التغيير. واليوم الربيع العربي يهدفون منه منع روسيا والصين من أن يكونا لاعبين استراتيجيين يناصران القضايا العربية ويعيدان التوازن للقرار الدولي, وهذا يعني أن القضايا العربية المصيرية قضايا احتلال إسرائيل للأرض وعدم الاعتراف بالحق التاريخي وتشريد الشعب العربي ومنع قيام الوحدة العربية وإجبار العرب على البقاء في دائرة التخلف كل هذا يريدون له أن يأتي في إطار الربيع العربي. وحين ينطق رئيس عربي بما يُفهم على أنه يستظهر القوالب الجاهزة في الفكر والأهداف الصهيوأمريكية ولا يُعبّر عن الفكر الوطني الحر ويريدون له أن يُحكِّم فينا غاياتهم ومصالحهم أكثر مما يحتكم معنا إلى قوانين تحررنا ومشروعية تحرير أرضنا, كما يريدون له باسمهم « كأعداء»أن يُكرّس الوكالة الزائفة عن الشعب ليصبح حراك الشعب ادعاءً يرسم بالميديا الإعلامية وليس حقيقة تمارسها جماهير السّاحات الوطنية, وبناءً عليه يتمُّ تجاهل المبادرة الإقليمة في مؤتمر عدم الانحياز القادم في إيران الذي سيحضره ذلك المعني رغم أنه ينطق بعكس ما تتوجه إليه إرادة المؤتمرين القادمين إلى طهران, ونرى من السيد المعني أنه يقدم مبادرة موازية غير متوافق عليها تستهدف تعطيل المبادرة المنتظرة وقطع الطريق على أي حل واقعي وفرض حلول بما ترغب به الإرادة الصهيوأمريكية. ونحن هنا ننظر إلى أي حل من خارج الوطن على أنه فاقدٌ لوطنيته,من منظور أن الشعب صاحب السيادة هو الذي يجترحُ الحل بوطنيته وقيم استقلاله, وليس يُقبل أي حل ممن لا زالت سيادة بلاده مكبلة بالمعاهدات الصهيونية وهو راضٍ بذلك, كل ذلك أصبح يعطينا دلالةً لا تحتاج إلى برهان على أن عصر أمراء الأندلس يتجسّد بشخوص الأمراء العرب القائمين على السّلطة العربية في بعض الأقطار, ونرى إلى عصر الصراع العربي العربي على أنه سيكون بدلاً من الصراع العربي الصهيوني إذا بقي الحال كما نوهنا عليه, ومن العجيب أن الأوصياء على شعوبهم يتحدثون بإرادة الشعب ويتجاهلون أخلاقية هذا المفهوم, ويُعلنون عن سياسية الشعب ويتجاهلون أخلاقية السياسة ويدّعون الوكالة عن شعبهم ونصفُ الشعب لم يفوّضهم, ثم يتحدثون عن الإيمان وهم أدوات في دوائر الطغيان, وإذا كان هؤلاء هم من يمثّل المرحلة العربية الراهنة فهذا يعني أن المرحلة العربية الراهنة بتمثيلهم هذا تصرُّ على تأجير العقل واستغلاق الدماغ السياسي لتنطق بإرادة الأعداء.