فتحُ الفتوحِ تعالى أن يحيطَ به نظمٌ من الشِّعرِ أو نثرٌ من الخطبِ
بعد هذه القصيدة انفرط سلك العقد وتناثرت حبّاته ميمنةً وميسرةً وصار من المألوف أن تطالع في هذه الصحيفة أو تلك المجلّة مقالة تشنّ على العرب والأمّة العربيّة هجوماً طاحناً لا هوادةَ فيه مسبغة عليهم أشنع الصفات وأقبحها .
والعربيّ في هذه المقالات كما يحلو لها أن تصوّره إنسان لم يمارس مهنة التفكير منذ زمن بعيد مريحاً نفسه من كبدِ ونصبِ هذا العناء خشية أن يمسّه اللغوب ، علقته مع الحضارة لم تقمْ يوماً ما لذلك لايفكّر في إعلان القطيعة النهائيّة معها فكيف يلغي شيئاً ليس موجوداً أصلاً ؟!.
أمّا التاريخُ العربيّ في اقلام مسطّري تلك المقالات فبقعة سوداء تشبه الثقوب الكبيرة التي يعثر عليها علماء الفلك من حين إلى آخر فتجعلهم عاجزين عن تحديد عمر الكون بصورة دقيقة .
ويخيّل للمتابع فيض قرائح هؤلاء الكتّاب أنّ العربيّ لم يكن يبرح صهوة جواده لأنّ حبّ الغزو والسبي يجري مع دمه بل هو دورته الدمويّة عينها ، وإذا سال رضاب العربيّ فإنك لن تعثر إلاّ على اللون الأحمر في هذا الرضاب لون الدم والشهوة والفتك.
العرب في هذه السطور بدو رحّلٌ يعيشون عالةً على الحضارة الإنسانية لم يقدّموا لها شيئاً ، اعتادوا على الأخذ يأخذون بلا حسابٍ وهم عن العطاء هم عاجزون .
الحوار مع هذه العصبة الضالّة المضلّة ضربٌ من الجنون ، تحيل الواحد منهم إلى كتاب المستشرقة الألمانيّة ( زيغريد هونكة) الذي يحمل عنوان ( شمس العرب تسطع على الغرب ) ، فتثور ثائرتهم وربّما رموا هذه الكاتبة بالعمالة وقالوا إنها تعمل في القلم السريّ لجهاز العروبة.
تذكّرهم أنّ الخليفة العظيم ( هارون الرشيد) الذي كان يحجّ عاماً ويغزو عاماً ولم يكن مطوّحاً بين كؤوس الراح وبطون الغانيات كما صوّرته الأقلام الحاقدة ؛ هذا الخليفة أهدى ملك فرنسا (شارلمان) يوماً ما ساعة من صنع العرب ، وعندما أخذت بالرنين فرّ من كان جالساً في مجلس الملك اعتقاداً من الجالسين أنّ الجنّ الذين كانوا داخل الساعة هم الذين أصدروا هذه الأصوات المفزعة ورحم الله أبا العلاء المعريّ القائل :
وقد كان أربابُ الفصاحة كلّما
رأوا حسناً عدّوهُ من صنعةِ الجِنِّ
تروي على مسامعهم ذلك فيجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم ويصرّون ويستكبرون استكباراً، أمّا إذا رويتَ لهم قصصاً ما أنزل الله بها من سلطانٍ عن تخلّف العرب وانحطاطهم وجهلهم وعجزهم فيصدّقون كلّ ما يسمعون ويقولون لك : لا فُضّ فوك زدْنا ما شئتَ من هذه القصص .
لهؤلاء نقول : كفّوا عن جَلْد الذات العربيّة التي أدمنتُم جلدها باسم النقد ، ولئن كنتم ناسين فإننا نذكّر ولن تنفعكم الذكرى بالفرق بين الجلد والنقد ، فالنقد يشبه تنظيف المكان المحيط بالجرح قبل تضميد ليكون الضماد مفيداً ، أمّا الجَلد فيشبه تمزيق الجرح وكلّ ما يحيط به من أنسجة وأغشية وشرايين .
نحن أمّة شأننا شأن الأمم الاخرى كان لنا دور في الحضارة أدّيناهُ كأحسن ما يكون الأداء ، ثمّ تداعت علينا الأمم وجار علينا الزمن ، لكنّ الأجيال العربيّة الحاليّة والقادمة لن تركن لهذا الواقع الأليم ، ولن يستطيع الغرب الذي يناصبنا العداء أن يضرب على آذاننا سنين عدداً لننام نوم أهل الكهف والغرب يتمنّى لو استغرقنا في هذا النوم مدى الحياة .
سيأتي ذلك اليوم الذي ننهض فيه من كبوتنا ، ونرجو ألاّ يكون ذلك اليوم بعيداً .