وأرادت هذه القوة الوليدة الناهضة أن تجد لها مكاناً مناسباً تستطيع من خلاله أن تبعد عنها شبح السيطرة والاستغلال، وأن تشكل عاملاً فعالاً في المجتمع الدولي والعلاقات الدولية والمساهمة بشكل ايجابي بتحقيق السلام والأمن الدوليين.
ويمكن القول إن من أهم العوامل التي أدت تشكيل إلى حركة عدم الانحياز هو أن الدول المستقلة حديثاً وجدت نفسها تعيش في مرحلة صعبة ومعقدة من مراحل تطور المجتمع الدولي نظراً للخلافات بين المعسكر الاشتراكي آنذاك بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق والمعسكرالرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ولجوء كل منهما إلى أساليب وطرق مختلفة من أجل تثبيت وجوده والحفاظ على قوته في مجابهة النظام الآخر.
وفي ظل هذه الأجواء والعلاقات الدولية عملت هذه الدول كل ما بوسعها للمحافظة على استقلالها الذي حققته بعد سنين طويلة من الكفاح والنضال إلا أن ظروف هذه الدول الذاتية والموضوعية غير قادرة على تحقيق ذلك في عالم يسوده التوتر، ومظاهر السيطرة والتوسع.
لذلك رأت أن أفضل الطرق لاستمرارية استقلالها وتطورها هوقيام حالة من الأمن والسلام في المجتمع الدولي أساسه العدل والمساوة والاحترام من خلال تحولها إلى قوة فاعلة ومؤثرة في العلاقات الدولية.
كما رأت معظم هذه الدول أن تخط لنفسها طريقاً جديدة تبعدها عن الدول المتصارعة أولاً وعن الدخول مجدداً في الصراع ثانياً وتجعل منها قاعدة فاعلة في الأحداث تسهم في التأثير على الأحداث القائمة ومحاولة توجيهها في مسارها الصحيح بشكل يبعدها عن مظاهر الصراع ويحقق تقدم المجتمع البشري وتطوره..
وعدم الانحياز ليست ظاهرة جديد مرتبطة بالمرحلة التي تشكلت بها الحركة بل هل قائمة وموجودة لدى الدول والشعوب التي تعرضت للسيطرة الاستعمارية وارتبطت جذورها بنضال هذه الشعوب من أجل حريتها واستقلالها ضد الدول الاستعمارية وتجلى ذلك بعقد العديد من المؤتمرات الآسيوية وكذلك الإفريقية كمؤتمر بيرفيل الذي عقد في آب 1926 وندد بالسياسة الاستعمارية التي تمارسها الدول الأوروبية المستعمرة في القارة الآسيوية ومؤتمر ناغازاكي الذي طالب بايجاد نوع من الروابط الوحدوية بين الدول الآسيوية لتشكل قاعدة لمحاربة الاستعمار والسيطرة الاستعمارية في القارة، هذا بالنسبة لآسيا أما إفريقياً فقد عقد المؤتمر الإفريقي الأول في باريس عام 1919 كوسيلة لتوجيه انظار الدول المجتمعة في مؤتمر السلام بعد الحرب العالمية الأولى إلى المشكلات التي تعاني منها القارة الإفريقية والشعوب الإفريقية وعقد المؤتمر الإفريقي خمس دورات آخرها عام 1945 في مانشستر.
ومرت حركة عدم الانحياز خلال نشوئها وتطورها بمراحل مختلفة، امتدت الأولى منها منذ نهاية الأربعينيات إلى مؤتمر باندونغ حيث عقدمؤتمر العلاقات الآسيوية في نيودلهي عام 1947 وطرحت فيه فكرة ايجاد كتلة حيادية تأخذ مكانها بين الدول وتلتزم برفض تقديم أي تسهيلات لأي من الكتلتين المتصارعتين في حال وقوع صدام بينهما ولم يتوصل المؤتمر إلى أفكار وقرارات محددة في هذا الموضوع.
وفي عام 1949 دعت الهند لعقد مؤتمر في نيودلهي حضرته بعض الدول العربية وشكل خطوة متقدمة في عمليات التعاون والتنسيق بين الدول حديثة الاستقلال إلا إنه لم يتمكن من إقامة تنظيم دائم لهذه الدول.
وفي العام نفسه شكلت الدول المستقلة آنذاك ما سمي بالفريق العربي الآسيوي من اثنتي عشرة دولة في إظار هيئة الأمم المتحدة بينها سورية، وبعد انضمام كل من الحبشة وليبيريا عام 1952 سمي بالفريق الآسيوي- الإفريقي.
وكانت الخطوة التالية هي انعقاد مؤتمر في أيار 1950 بمدينة باغيد الفلبينية وأحد المواضيع الأساسية التي درسها هو العمل من أجل إقرار سلام دولي يعتمد في أساسه على سياسة عدم الانحياز.
وفي الفترة الممتدة من 28 نيسان إلى 2 أيار 1954 عقد في العاصمة السيلانية موتمر درس الأوضاع القائمة وتوصل إلى ضرورة الاستمرار في العمل والتنسيق لتنظيم فعاليات الدول المستقلة حديثاً وأخذها دوراً أكثر فاعلية في المجتمع الدولي.
وفي كانون الأول من العام نفسه عقد موتمر موسع ضم الدول الافرو- آسيوية في مدينة بوغور باندونيسيا تم خلاله الدعوة لموتمر موسع في باندونغ في أندونيسيا في نيسان 1955.
وانعقد المؤتمر في موعده بحضور 29 دولة يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار ونصف نسمة آنذاك بينها سورية وأقر المؤتمر عشرة مبادئ كأساس وقاعدة للعلاقات بين الدول.
وشكل انعقاد مؤتمر باندونغ بدء المرحلة الثانية من حياة الحركة وهي تمتد حتى المؤتمر الأول في بلغراد وشهدت هذه الفترة دخول الرئيس اليوغسلافي-تيتو في إطار الجهود المبذولة لتحقيق قيام حركة عدم الانحياز إلى حيز التطبيق العملي، كما برزت شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الوطن العربي وجواهر لال نهر و رئيس وزراء الهند.
وفي هذه المرحلة عقدت عدة مؤتمرات مهمة بهذا الخصوص كالمؤتمر الذي عقد في جزيرة بريوني على الساحل اليوغسلافي في تموز 1956 والذي ضم كلاً من ناصر وتيتو ونهرو ومؤتمر الشعوب الأفرو- آسيوية في القاهرة كانون الأول 1957 والمؤتمر التحضيري الموسع في القاهرة حزيران 1961 الذي اتخذ جملة من الاجراءات التنفيذية لعقد المؤتمر التأسيسي الأول.
وفي مطلع أيلول 1961 عقد المؤتمر الأول لعدم الانحياز في العاصمة اليوغسلافية بلغراد وحضرته 25 دولة وبهذا المؤتمر تم نقل عدم الانحياز من فكرة نظرية وجهود واسعة إلى حيز التنفيذ ومثّل بداية مرحلة الانطلاق للحركة.