ولايمكن أن يكون التصعيد الإسرائيلي الأخير في القدس، وتحديداً في المسجد الأقصى، أمراً عفوياً، ولايمكن أن ننظر إلى حصار المسجد المبارك وغلقه ومنع المسلمين من الصلاة فيه وإدخال المستوطنين إليه بغرض فرض السيطرة الإسرائيلية عليه فقط، وجعل مصيره في يد الاحتلال لابيد إدارة الأوقاف الفلسطينية التي تتولى هذا الأمر منذ عام 1967 سوى أنها سياسة متعمدة تهدف لتغيير واقع الأقصى «قلب القدس ومؤشر هويتها».
والحقيقة إننا لو نظرنا لما يجري بمنظار استراتيجي أعمق سنرى أن مايحدث هو باختصار خطة صهيونية لحسم مصير الأقصى والقدس، وجعل هذا أولوية لدى المجتمع الصهيوني المتطرف للوصول لتهويد الأقصى، وإخفاء أي معالم أو هوية إسلامية تعرقل يهودية هذا الكيان.
ويأتي حصار المسجد من قبل شرطة الاحتلال والاعتداء على المصلين بالضرب وإطلاق الرصاص والاعتقال والاقتحامات المتكررة له من قبل الجماعات اليهودية وإغلاق بواباته ومواصلة الحفريات أسفله ومنع المسلمين من الصلاة فيه من باب العنصرية والاضطهاد الديني، وحرمان للفلسطينيين من حقهم في حرية العبادة وأداء شعائرهم الدينية، وخرق سافر لجميع المواثيق والقرارات الدولية والشرائع الدينية.
طبيعة الخطة الإسرائيلية والتي لم تعد سرية، التي تنفذها اليوم حكومة بنيامين نتنياهو بمباركة من الكنيست، تظهر دلائل عدم سريتها فيما قاله نائب رئيس مجلس وزارء الكيان الغاصب سلفان شالوم في السادس من تشرين الأول الماضي، من أن المعركة بدأت لفرض السيادة الإسرائيلية على القدس، وبشكل خاص على مايسمونه جبل الهيكل وهي التسمية التي يطلقها الإسرائيليون على موقع الأقصى.
قرار تلو الآخر صدر خلال فترات متقاربة ضد مواطنين مقدسيين أو ضد شخصيات دينية ووطنية، وهذه القرارات صدرت مرفقة بخرائط تحدد لمستلميها الأماكن التي يمنع فيها الاقتراب من الأقصى والبلدة القديمة، حيث تستند سلطات الاحتلال إلى قوانينها العسكرية أو إلى أوامر قادة الشرطة ومؤخراً استندت إلى قانون الطوارئ والحرب البريطاني لتتعامل مع مدينة القدس كساحة حرب.
ومن الخطط المعلنة في الحكومة والكنيست معاً هي التخلص أيضاً من القيادات الإسلامية التي ترابط في الأقصى وحوله، وتقود الجماهير لمنع تهويده والسيطرة عليه أوأجزاء منه، وقد نفذت «إسرائيل» خططها ومنعت المسلمين من الصلاة في الأقصى أو ساحته ولم تكتفِ حكومة الاحتلال بذلك بل قامت باعتقال المصلين.
ومقابل ذلك يتم تشجيع جماعات متطرفة على تصعيد دعواتها لمؤيديها وعموم المجتمع الصهيوني لاقتحام الأقصى بشكل جماعي وإقامة طقوس تلمودية داخل المسجد، ونشر آلاف من الجنود الإسرائيليين لحمايتهم وحرمان المسلمين من الصلاة في المسجد أوقات دخول هؤلاء المستوطنين للحرم القدسي.
وفي هذا السياق فقد كشفت مؤسسة الأقصى للوقف والتراث الشهر الماضي عن مخطط للاحتلال الصهيوني لتقسيم الأقصى بين المسلمين واليهود، كخطوة من محاولات إقامة الهيكل المزعوم على حساب المسجد الأقصى المبارك، من خلال عرض فيلم تسجيلي وثقت فيه صور فيديو تعرض لأول مرة تبين اقتحامات الجماعات اليهودية للأقصى وإقامة شعائر دينية وتلمودية داخله، وعرض الفيلم صور لانتهاكات الاحتلال والسياح الأجانب للمسجد، وهم يتجولون فيه شبه عراة، ويمارسون تصرفات غير لائقة بحرمة المسجد، كما عرض الفيلم محاولة المؤسسة تسويق مخطط بأن ساحات المسجد المبارك هي ساحات عامة، وعرض الفيلم أيضاً تصريحات لحاخامات يهود وسياسيين صهاينة يدعون إلى تقسيم المسجد الأقصى والتسريع في بناء الهيكل المزعوم.
إن الممارسات الصهيونية على الأرض تدل على أن هذا المخطط يشتمل على عدة مراحل تتم على النحو التالي:
1- جعل وجود اليهود في الأقصى مسألة اعتيادية من خلال السماح بأكبر عدد منهم باقتحام المسجد والتجوال فيه.
2- محاولة جلب أكبر عدد من اليهود للمشاركة في اقتحام الأقصى وجعل عمليات الاقتحام تتم في أوقات متقاربة، وقد كثرت مؤخراً مؤتمرات الجماعات اليهودية المتطرفة لبحث سبل تهويد الأقصى، وتجنيد قدر من الدعم الشعبي للتهويد.
3- هناك سعي واضح إلى تغيير الوضع القائم في الأقصى والذي كان سائداً من خلال ممارسة الضغوط على الحاخامية الكبرى في «إسرائيل» لتغيير الفتوى التي أصدرتها بعيد احتلال القدس في عدوان حزيران 1967 والتي حظرت بموجبها على اليهود الصلاة في الأقصى.
4- يطرح الساسة والنخب الفكرية اليهودية اقتراحات علنية لطرد الفلسطينيين من المسجد تمهيداً لبناء الهيكل الثالث المزعوم وتهويد المكان بشكل نهائي.
إن مايجري في القدس اليوم من عدوان هو أكبر و أخطر مما وقع لها في يوم من الأيام وحتى أيام اعتداء الفرنجة الذين قتلوا الآلاف في باحاته وربطوا بهائمهم وخيولهم في أعمدته ومنعوا الصلاة فيه لأكثر من تسعين سنة، لكن الفرق بين مايجري اليوم للقدس والأقصى، أن العدو اليوم وضع لنفسه هدفاً هو الاستيلاء على المسجد في إطار السعي لهدمه وتحويله إلى مايسمى هيكلهم المزعوم.