يُغرق الغرب الاستعماري المتصهين أذنابه فيها، ولا ينفكّ يظهر نفسه بأنه صاحب المبادرة، ولم يفلت زمامها من يديه، ولن يفلت أبداً. ومن غريب الحال أن خطأ السياسة أصبح سمة ملازمة للغرب باعتبار أنه ليس له مشروع سياسي، أو اقتصادي يتبادل فيه العلاقات الدولية القائمة على المنافع المشتركة، واحترام سيادة الآخر، بل ما لديه محصورٌ فقط في كيف يحمي المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، ويوفر له -أي للمشروع الصهيوني- عوامل الوجود الآمن، وأسباب التفوق المستمر لتبقى استراتيجية التوسّع لديه على حساب العرب هي الهدف الدائم. وفي هذا الخصوص ننظر إلى سيرورة الأحداث في الشرق العربي لنرى سياسة الصهيونية، وكيانها العنصري، ونرى الغرب الإمبريالي المتعهد لها بالتحقيق.
وما لا يمكن أن يغرب عن بال محللٍ سياسي هو أن إنتاج القوة الوطنية في كل دولة عربية محيطة بكيان الصهيونية ممنوع، وكل ما يحمي لها السيادة ممنوع، وكل تحالف لها عربياً كان أو إقليمياً، أو دولياً ممنوع حيث إن كل دولة من دول الطوق مستهدفة دوماً عبر ما يُسمى بالمجال الأمني لكيان العدوان، ويجب أن تبقى تحت السيطرة، والتدخل في شؤونها الداخلية ميسور داخل مجلس الأمن الدولي، ومن خارجه كما طلعت علينا الأوهام الأميركية بأن أميركا سوف تكافح من أجل العدالة في سورية، ولو بمفردها، ومن خارج مجلس الأمن. نعم إن أميركا يؤرّقها فقدان العدالة، وتريد تحقيقها باحتلال أراضي الغير، وبتدمير الاستقرار الإقليمي، وبتفكيك جغرافية الدول الوطنية المحيطة بإسرائيل، وبالتمكين لهذه الأخيرة من تهويد المناطق المحتلة من أرض العرب، ودفع عملائها الأعراب لكي يكونوا جاهزين دوماً لخدمتها ولو بتشكيل ناتو صهيو-أعرابي يُدخلونه بحرب مع إيران باعتبار أن إيران الحليفة للمقاومين العرب منخرطة في جبهة المقاومة معهم من منظورها الإسلامي، والإنساني، والحضاري الذي يُقاوم المشروع الاستعماري الصهيوني في الإقليم الشرق أوسطي طالما أنه مشروع يهدد أمن الإقليم، واستقراره، ويستهدف الدولة الإسلامية في إيران كذلك. والمطلوب أمروصهيونياً أن لا يتم ما بين العرب أي تعاون، أو تعاضد، أو تلاحم تجتمع فيه القوة الموجودة بين هذه الأقطار فيصعب على إسرائيل حالئذِ أن تبقيها تحت السيطرة. وقد جرّب العرب بعد حرب التحرير 1973، وما تلاها من مفاوضات في إطار الأمم المتحدة السياسات الأمروصهيونية، ولمسوا كيف أن السلام الذي تتطلع إليه دولة العدوان هو استسلام العرب، والتنازل عن حقوقهم التاريخية المشروعة، والاعتراف بالدولة اليهودية الخالصة، وإسقاط حقّ الفلسطينيين بالعودة وبالدولة الوطنية. وكلما اجتمع العرب -عبر الجامعة, أو القمة- لا يمكن أن يمرَّ لهم قرار يحسم موقفهم من دولة العدوان، فالعرب في مؤسستيهم (الجامعة، والقمة) يسوّغون للتدخل الأجنبي في أقطارهم، ويحاربون بعضهم البعض، ويشكلون التحالف ضد سورية، واليمن، والعراق، ولبنان، ويوفّرون الفرصة لدخول مئات الآلاف من الإرهابيين التكفيريين من أجل تدمير سورية، والعراق لكنهم لا يسمحون بأن يناقش أيُّ مؤتمر عربي على مستوى وزراء الخارجية، أو الرؤساء والملوك قضيةً تتصل بالتحرر العربي من الاحتلال الصهيوني، ولا قضية تتصل بوحدة العرب وتدعيم سيادتهم واستقلالهم في أقطارهم.
وهذا هو آخر لقاء لوزراء الخارجية العرب الذي تغيّب عنه وزراءُ دولٍ عربية ستٍ، ولم يتحدث بمفردة واحدة تتعلق بفلسطين والقضية المركزية للعرب، فالمهم أن يتشكّل الناتو الأعرابي لمحاربة إيران طالما أنها منخرطة في جبهة المقاومة العربية لتحرير القدس، وطالما أنها تدعم هزيمة المشروع الإرهابي على أرض سورية، والعراق، ولبنان قد أغضبت الصهيونية وأعرابها لذلك لا بد من تعويم الفوضى في لبنان لكي تمكن أطرافَ العدوان على العرب والعروبة من تدويل الموضوع اللبناني من جديد، لتفرض الاحتراب الداخلي بحجةٍ واهية أن إيران لها امتداد على لبنان، وأن حزب الله مشارك في الحرب على الإرهاب، وأن النأي بالنفس الذي طرحته وفرضته على لبنان السعودية، ومعها إسرائيل هو في مصلحة لبنان. وفي سياسة النأي بالنفس قد احتُلّت جرود عرسال، ودخل الإرهاب إلى البقاع، وطرابلس، والمخيمات ولم تتحرك السعودية ولا كل من يدعم الإرهاب كإسرائيل لكي يترجموا النأي بالنفس على أنه مصلحة لبنانية.
لكن حين يقوم لبنان المقاوم، بالمشاركة مع سورية بالقضاء على الإرهاب وتحرير عرسال والجرود، والبقاع وهزيمة مَنْ وقف وراءهم عندئذٍ تكون سياسة النأي قد تضررت لأنها بالأصل نأي عن مصالح لبنان، وتعهد بخدمة الصهيونية وإسرائيل على نهج آل سعود.
ونلاحظ أن الدور الذي رسموه للحريري اليوم هو أن يقوّض أسس الاستقرار النسبي الذي دخله لبنان، وأن يكون التعويض عن الهزيمة في سورية والعراق لإسرائيل وأعرابها، والمتأسلمين داعمي الإرهاب الوهابي، والإخواني التكفيري بإدخال لبنان في أجواء الفوضى السياسية،والأمنية حتى يتم تدويل الحال وتبدأ عملية الحرب على لبنان لتدميره مرة ثانية.
وما هو واضح اليوم هو أن النصر في سورية، والعراق، والمغطس اليمني لآل سعود سيمنح المنطقة العربية فرصة لإعادة إنتاج حالة عربية تنتهي فيها سيطرة آل سعود والمشيخات على مؤسسات العمل العربي المشترك وتعود الفكرة العروبية، والقومية على يدي الشعب العربي في كافة أقطاره إلى برامج مؤسسات العمل المشترك، ويكون الميدان في العراق، وسورية، ولبنان قد هيّأ لجوٍّ من النهوض الشعبي تتغيّر معه صورة النظام العربي الرسمي، وتتبدل سياساته الممالئة للغرب المتصهين لتصبح عربية الوجه, واليد واللسان.