رسمها الميدان برجالاته الميامين، الواقع الذي تكرست وتجذرت حوامله أكثر وأكثر في عمق المشهد بعد اللقاء الهام والمفصلي بين الرئيس الاسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي، اللقاء الذي عزز التحالف ورسم ملامح المشهد و ثبّت العناوين والخطوط الرئيسة للمرحلة المقبلة بكل تعقيداتها وتشابكاتها.
إذاً هزيمة جديدة تتلقاها الولايات المتحدة بعد خسارتها البوكمال وما تعنيه لها هذه الهزيمة بتوقيتها وأبعادها وتداعياتها الاستراتيجية على كافة الأصعدة والاشكال -الميدانية والسياسية والمعنوية - على اعتبار أن تلك المدينة التي كانت تشكل آخر معاقل التنظيم كانت اميركا حتى ما قبل تطهيرها من الإرهاب تراهن عليها لضمان استمرار وبقاء نفوذها بين العراق وسورية كوسيلة عزل وفصل بين البلدين و انطلاقا من أن البوكمال هي الأداة الرئيسة لها للعودة إلى العراق وللدخول إلى سورية خارج قواعد القانون الدولي وخارج الشرعية الدولية من أجل فرض مشروعها الاستعماري بالسيطرة على المنطقة- ومع اندحار داعش الذي بات قاب قوسين أو أدنى (داعش بات يختبئ في جيوب صغيرة ومتناثرة ) لم يبق لأميركا أي حجة للبقاء في سورية، وبالتالي يصبح عليها سحب جنودها وإغلاق قواعدها التي أنشأتها بذريعة محاربة التنظيم الارهابي.
في التحليل وانطلاقا من ذلك الترابط العضوي الذي بات واضحا ومكشوفا ومفضوحا وباعتراف عدد كبير من السياسيين والمسؤولين الغربيين والأميركيين فإن مجرد اندحار داعش عن الجغرافيا السورية يصبح المشروع الأميركي بحكم الساقط عسكرياً وسياسياً، لأنه وببساطة فإن التنظيم الارهابي كان الطرف والاداة والذراع الأقوى التي كانت تضرب وتبطش بها واشنطن ، ليس هذا فحسب بل كانت تمثل لها الرهان الاكبر الذي تتشبث به لإعادة عقارب الساعة الى الوراء لأنها كانت تسيطر عليه وتتحكم بتحركاته وتضبط إيقاعه بشكل كامل.
المسار السوري كان واضحاً ومعلناً منذ البداية قبل تطهير البوكمال وقبل تحرير دير الزور وقبل تحرير حلب وحمص والقلمون وتدمر وقبل تحرير وتطهير أي مدينة وبلدة وقرية من التنظيمات الارهابية.. المسار السوري كان واضحاً وراسخاً وواثق الخطى لأنه كان ولا يزال ينطلق من يقين وإيمان ثابت وعزيمة وإرادة كبيرة بالنصر وذلك بحكم التاريخ والجغرافيا.. المسار كان واضحاً وتُرجم من خلال قرار واضح وحاسم وصريح بالمضي في طريق المواجهة والحسم حتى تطهير كل ذرة تراب من رجس ونجس الإرهاب وهذا كان معلناً وعلى لسان الرئيس الأسد وفي أكثر من مناسبة.
على عكس المسار السوري، كان المسار الأميركي لجهة الغموض والريبة والخداع والزيف ، لكن رغم ذلك كله فقد بدا واضحا أن الخيارات الأميركية بحسب المعطيات والمعلومات والتجارب السابقة وكذلك التطورات والتحولات المتسارعة على الأرض باتت تقتصر على إعادة انتاج واستنساخ الخيارات والبدائل السابقة كالتصعيد الميداني البديل الحاضر دائما عندما تهزم الأدوات الأميركية في الميدان، أو الذهاب بعيدا في العبث بواقع دول المنطقة سواء بشكل مباشر أو عبر أدواتها -الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سورية أو تحريك النظام السعودي للعبث بالواقع اللبناني، أو الطلب من حلفائها استصدار مشاريع قرارات تعرقل العملية السياسية كمشروع القرار الياباني بشأن تمديد مهمة آلية التحقيق المشتركة في استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية الذي أجهض بفيتو عاشر من قبل روسيا.
بكافة الأحوال، يمكن القول :النتيجة التي يمكن استشفافها من جملة المتغيرات والتطورات المتسارعة على الأرض هي أن الولايات المتحدة باتت في موقف لا تُحسد عليه بعد أن فقدت معظم خياراتها وأوراقها وصولاً نحو فقدانها توازنها وصوابها وهيبتها أيضاً في ظل وصولها إلى طريق مسدودة نتيجة هزائمها وإخفاقاتها المتلاحقة في الميدان السوري والتي خلقت لها عجزاً مستديماً في سلوكها ليس على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم أيضاً.
نختم بالقول :إن المشروع الأميركي قد دخل مرحلة الموت السريري والاحتضار الوشيك وهو ما قد يدفع واشنطن مجدداً الى البحث عن سيناريوهات وخيارات وبدائل إسعافية تنقذها وتنتشلها من عنق الزجاجة وبالتوازي تعيد لها توازنها وصوابها و تقف حجرة عثرة امام التقدم الميداني للدولة السورية وحلفائها في معركة القضاء على الارهاب، دون أن يغيب عن الاذهان أن تلك السيناريوهات قد تكون كارثية على جميع الاطراف وفي المقدمة الولايات المتحدة الاميركية.