حيث تطالعنا وسائل الإعلام الإسرائيلية والعربية على حد سواء في صباح كل يوم بأنباء حول حفر نفق أو تجريف أرض لتغيير معالم القدس الإسلامية، وعلى مدى أكثر من أربعة عقود خلت قامت السلطات الإسرائيلية بحفر أنفاق مختلفة الأطوال من غرب المسجد الأقصى المبارك أي من حائط البراق ومن داخل المدينة المقدسة من جهة الشمال الغربي إضافة إلى الأنفاق التي كشف النقاب عنها من جهة الشرق من حي عين سلوان، حيث يبلغ طول آخر نفق ممتد من عين سلوان نحو 600 متر أسفل المسجد الأقصى باتجاه منطقة الكأس وهو بعمق 10 أمتار وعرض مالايقل عن 5 أمتار.
وقد شرعت السلطات الإسرائيلية منذ فترة طويلة في بناء نواة مدينة سياحية أسفل مسجد الصخرة المشرفة والكأس التي تضم كنيساً يهودياً لأداء طقوسهم اليهودية، وقد وضعوا مجسماً يمثل هيكل سليمان الثالث المزعوم فيه، كما تضم متحفاً اسرائيلياً يعرض فيه اليهود تاريخهم المزعوم، بالإضافة إلى إقامة معهد ديني يهودي لتعليم الشباب والفتيات الدين والتاريخ اليهودي المزيف، حيث ثمة محاولات اسرائيلية لفرض مصطلح (حائط المبكى) عوضاً عن حائط البراق.
وفي هذا السياق نحاول توضيح المقدمات التي أدت إلى هبة البراق في عام 1929، لكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى أن حائط البراق هو جزء من الحائط الغربي للحرم الشريف في القدس، وقد كان ادعاء اليهود ملكيته سبباً في التوتر الذي نجمت عنه اشتباكات عنيفة خلال شهر آب من سنة 1929 بين العرب واليهود في القدس وفي أنحاء عديدة من مدن فلسطين، وقد أرسلت الحكومة البريطانية إلى فلسطين لجنة تحقيق في أسباب الاشتباكات عرفت باسم (لجنة شو)، فأوصت هذه اللجنة بإرسال لجنة دولية لتحديد حقوق العرب واليهود في حائط البراق، وقد وافقت جمعية عصبة الأمم على هذه التوصية بقرار أصدرته يوم 14/1/1930، وتشكلت بموجبه لجنة من ثلاثة أعضاء من غير الجنسية البريطانية مهمتها ( تسوية مسألة حقوق لمطالب اليهود والمسلمين في حائط المبكى)، لأن هذه المسألة تستدعي حلاً سريعاً ونهائياً.
وقد تألفت اللجنة من ثلاثة أعضاء من السويد وسويسرا واندونيسيا، ووصلت إلى القدس في 19/6/1930 حيث بدأت عملها الذي استمر شهراً واحداً عقدت خلاله 33 جلسة، واستمعت إلى وجهات نظر الفريقين، العربي واليهودي، كما استمعت إلى شهادات 52 شاهداً قدمهم الفريقان اللذان زودا اللجنة أيضاً بـ 61 وثيقة وكانت المشكلة الرئيسة التي واجهت اللجنة يوم ذاك تتمثل في محاولة الحركة الصهيونية قلب الوضع الراهن بالنسبة إلى الأماكن المقدسة، إذ ركزت جهودها، بادىء ذي بدء، على حائط البراق متبعة أساليب تدريجية تصاعدية تنتهي بها إلى ادعاء حق اليهود في ملكية حائط البراق على أنه حائط المبكى لليهود.
وقد تمثلت المرحلة الأولى من تلك الخطة بجلب اليهود الكراسي والمصابيح والستائر على غير عادتهم السابقة، ووضع هذا الأدوات أمام الحائط ليحدثوا سابقة تمكنهم من ادعاء حق ملكية الأرض التي يضعون عليها هذه الأدوات، ومن ثم حق ملكية الحائط، وانتهت اللجنة من وضع تقريرها في مطلع كانون الأول 1930، وخلصت فيه إلى استنتاجات حازت موافقة الحكومة البريطانية وعصبة الأمم معاً، فأصبح بذلك وثيقة دولية مهمة تثبت حق الشعب العربي الفلسطيني في حائط البراق، وأهم هذه الاستنتاجات:
1- تعود ملكية الحائط الغربي إلى المسلمين وحدهم، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لأنه يؤلف جزءاً لايتجزأ من ساحة الحرم القدسي الشريف التي هي من أملاك الوقف، وتعود إليهم أيضاً ملكية الرصيف الكائن أمام حائط البراق و أمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط، لكون الرصيف موقفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير.
2- إن أدوات العبادة، / أو غيرها من الأدوات التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط، بالاستناد إلى أحكام هذا التقرير، أو الاتفاق بين الفريقين، ولايجوز في حال من الأحوال أن تعتبر ، أو أن يكون من شأنها إنشاء أي حق عيني لليهود في الحائط أو في الرصيف المجاور له.
3- لليهود حرية السلوك إلى الحائط الغربي لإقامة التضرعات في جميع الأوقات مع مراعاة شروط حددها التقرير.
4- يمنع جلب أي خيمة أو ستار أو ما شابههما من الأدوات إلى الحائط.
5- لايسمح لليهود بنفخ البوق بالقرب من الجدار، وهكذا أثبتت اللجنة الدولية، بالرغم من وجود الانتداب البريطاني في فلسطين وشراسة الهجمة الصهيونية الاستعمارية آنذاك، أن حائط البراق أثر ومعلم إسلامي مقدس، وأن كل حجر فيه، والرصيف المقابل والمنطقة الملاصقة داخل أسوار المدينة القديمة، ملك عربي ووقف إسلامي، وأن لاحق إطلاقاً لليهود ولليهودية في ملكية أي ذرة من ذراته، وأن كل ما لليهود من حق هو إمكان زيارة الحائط فقط، بل إن هذا المكان مصدره التسامح العربي الإسلامي.
ورغم عملية الإعدام التي نفذها الجيش البريطاني بقادة هبة البراق للدفاع عن قدسيته، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، إلا أن الهبات والانتفاضات الفلسطينية لم تتوقف من أجل الدفاع عن الإرث العربي الذي تمثله مدينة القدس بمعالمها المختلفة بما فيها حائط البراق الذي تحاول إسرائيل فرضه على أنه حائط المبكى لليهود.
وما انتفاضة الأقصى وقبلها انتفاضة عام 1987 وصولاً إلى تحدي المقدسيين لمحاولات المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى سوى تعبيرات ماثلة للعيان لمواجهة السياسات و الاجراءات الاسرائيلية الرامية إلى تهويد معالم القدس بما فيها حائط البراق الذي يحتضن الحرم القدسي الشريف من جهة الغرب.