تعرفت إليه منذ سنوات بعد أن أعدت إليه كتاباً يحمل إهداء بخط يده، كان صيداً ثميناً من مكتبة الرصيف، وبالتأكيد كنت أتابع الكثير مما قدمه في الشعر والنقد الأدبي، حاورته وفاض بالكثير الكثير وأعلم أن في جعبته ما يملأ سلالاً كثيرة.. تعرفت إليه ثانية من خلال أوراق عارف الدمشقي، أدهشني ذاك الفتى الذي كان وهذا المبدع الذي صار... عارف الدمشقي بوح يحتاج إلى من يفك أسراره ويقرأ مرة واثنتين وثلاثاً، ويحتاج أن يسأل وربما لا يجد للسؤال إجابة وهو بحاجة إلى أكثر من ذلك..
اليوم أقف عند مجموعة الشاعر الجديدة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب تحت عنوان: الطريق إلى دمشق...
وفي الطريق إلى دمشق مذاهب شتى فما قصدها محبًّ إلا وفتحت أبوابها به، ومامن معتدٍ إلا وتهالك عند أسوارها. في الطريق إلى دمشق تتفتح القلوب للمحبين وتعمى الأبصار والبصيرة للجاحدين، دمشق في الأدب، في الفن في الإبداع ليست نغمة مفردة بل هي حقل أنغام وجدول ينساب في الشعر وفي القصة و في الرواية، في الموسيقا و في الألوان.
بالتأكيد نذير العظمة واحدٌ من أبناء دمشق ومحبيها ومبدعيها وما قدمه ليس إلا محطة من محطات كثيرة توقف فيها المبدعون عند دمشق، فما من شاعر إلا وغمس ريشة كلماته بعطر غوطتها ورصّع صوره ببهاء قاسيونها، وأملس لغته بياسمينها.
حاولت منذ عامين أن أقدم مختارات مما قيل في دمشق وصدرت ضمن ديوان دمشق، فإذا بي أمام أعداد لا تحصى من القصائد، بل المعلقات التي قيلت في دمشق مكاناً وزماناً وبطولة.
بل لا أذهب بعيداً إذا قلت: إن المرء ليستطيع كل عام أن يجمع مجلدين مما يقال في دمشق فكما هي الحضارة المتجددة كذلك هو الإبداع يتجدد..
الطريق إلى دمشق
مجموعة الشاعر العظمة واحدة من اللآلئ التي صقلت لدمشق وللاحتفاء بدمشق، ودمشق هنا في هذه المجموعة هي بلاد الشام، هي سورية الطبيعية وهل الأبناء غير امتداد للآباء... يقودنا العظمة إلى بداية الطريق ويعلن دون مواربة أن المعراج طويل طويل، بلى ربما كلما صعدت قمة إليها تراءت لك قمم. يقول في القصيدة المعنونة: الطريق إلى دمشق:
- ما وصلنا إلى دمشق ولكن
قد سلكنا إلى دمشق السبيلا
- كم أكلنا من خبزها وشبعنا
وشربنا من مائها سلسبيلا
- وحلمنا بأننا في ثراها
نزرع الحب والإخاء الجميلا
- آه يا قاسيون أي احمرار
ضرّج الصخر والشقاء الطويلا
- إنه الجمر والنخيل وعشق
ملأ الصدر والفؤاد العليلا
- آه يا حبنا الذي شفقاً صار
وروضاً من شوقنا وأصيلا
- ظل فينا يا نبضها يا حنيناً
وإباء وعنفوانا أصيلا
- ما وصلنا إلى دمشق ولكن
قد عشقنا إلى دمشق الوصولا
ودمشق قلب سورية، وسورية هي رحم الدنيا كما يراها الشاعر:
- قد هرول فجرك مبتهجاً الليل تخوّف مختلجا
- فلعزمك حدّ مثل السيف يسيل دماً فيضيء دجى
وعلى المقلب الآخر ثمة من يرى نفسه متحضراً لكنه بعيد عن الإنسانية وقيمها، لا يعرف من الحضارة إلا الوجه المادي الذي لم يترك نبضاً في قلب:
- يا جارنا في الغرب إنك في الحضارة غير جار
- ماذا تقول لعصبة تركتك تحلم بالدمار
- صليت في رحم التراب وأنت ترجمني بنار
- رئة الهواء تظل تثقبها وتجتث الذراري
- الماء مائي والحياة بخاطري سحر الكنار
- وعلى جبيني لم يمت ألق النجوم فلا تماري
- إن كنت قابيل اتعظ فأنا أخوك فخذ بثأري
واغسل يديك من الدماء
وارفع جبينك للسماء..
ولا ينسى الشاعر تفاصيل دمشق وأحياءها التي صارت مدناً بعد أن كانت حقولاً وبساتين، فها هي كفرسوسة تنال قصيدة تحمل اسم (معلقة كفرسوسة).
ومن الشام إلى بعلبك إلى صافيتا وبرجها إلى مرمريتا إلى الرجال الذين صنعوا النصر: يوسف الأجيال، الصالح العلي، الشهيد أنزور، إلى الفلاسفة والمفكرين إلى المعري إلى أبي العلاء الدمشقي.
مجموعة شعرية تزهر وتثمر في الآن ذاته لشاعر يقطف من النار وهجها ليصنع باقة من قصائد.