وكثيراً ما كنت أعيد إنتاج «القص على رفاقي» مما قرأت، أو أني جعلت أقص عليهم شيئاً من أحداث كانت تجري في أسرتي ومدرستي أو الحي الذي كنت أعيش فيه. وكانت جدتي، التي لا تعرف القراءة، هي واحدة من مصادر الحكايات التي لم تتوقف عن سردها عبر الليالي.
ومع بداية الوعي ومن ثم التحاقي بالجامعة، أشرقت بداخلي جماليات «الحكي المكتوب» أو «السرد» مما كان يظهر في قصة قصيرة أو رواية أو مسرح، وهكذا اكتشفت أن ما أفعله قد تبلور في محاور تجمعت حول السرد المطلوب لتكون فيما يشبه الأعمدة الثلاثة وهي: 1- وسائل القص: شخوص ورموز وأفكار، وكانت متطابقة في تداخل جعلتها بأبعادها الإنسانية والواقعية فلا يمكن التعرف إليها إلا كوصفة فنية بأوجه ثلاثة.
2- آلية القص: وقد برزت في الوقائع والأحداث من يومية وتاريخية.
3- إحداثيات القص: ولم يكن هناك من مناص إلا في حصر تلك الإحداثيات باثنتين هما المكان والزمان. ويوصف الزمان بأنه متحرك ولا يقوى على الثبات في نقطة محددة فهو كالنهر في جريانه المستمر وإن كان القص سيختطفه في لحظة أو فترة معينة ليستخدمه في سرده التي تقع في حدود المكان. وأما المكان فيمكن توصيفه بأنه المدن والقرى، الحواري والأزقة، البيوت والمدارس وأمكنة مختلفة. وهناك ما يدور فيه السرد مثل الأحلام «منام ويقظة» أو في ساحة الميكروسكوب «أي مشاهدة الصغائر المتضخمة» أو في الذكريات المركبة.
إن قدر السرد لا يستقيم إلا بالعلاقة الوثيقة بين الزمان والمكان، وهنا يصح استعمال مصطلح «الزمكان» بما يعني التحام وثيق للكلمتين.
ولا يقتصر المكان في القص على إظهار دوره في جماليات الإبداع من سرد ينسحب على المسرح، كما سيكون للشعر دوره. وأما ما يخص الأمكنة المخترعة فلا يمكن لها إلا أن تكون من واقع امتدت جذوره في أرض الحقائق الملموسة لتتفرع أغصانه في فضاء التخيل وتمتد جذوره في أرض الواقع، فيكون كالخيال الواجب الوجود.
ولهذا نعتبر المكان معادلاً للجغرافيا، بينما يتحول الزمان إلى معادل للتاريخ الذي يحتمل للكاتب أن يدركه بمعرفة أو يفسره على طريقته أو كما يشاء مخزون ثقافته في رؤيته.
ومهما كان الأدب المبدع بأجناسه المختلفة فإنه لن يكون إلا بارتباطه بالواقع فتكوينه من شخوص محملة بالرموز والأفكار التي تتجاذبها الأحداث، فحيوية السرد لا يمكن لها إلا بتوضع أقدام آليته على خارطة المساحة التي يحدها المكان من طرف والزمن من طرف آخر، وهذا ما يمكن تسميته بالبناء الغني.