تبدأ الرواية «بكاسر الشيخ» يبحث عمّا يأكله في البرية، وفجأة يجد قطاً برياً يعالج شيئاً ما في هدأة الليل، يهرب القط منه ليكتشف أنه يعالج طفلاً، ابن زنى، يأخذه إلى ما يسمّى بالغرفة، ويضع قرمة حطب في الكانون ليبعث الحياة في الروح الضالة.
هذه الحادثة، تقود لتنثر فائزة داود حكايتها المليئة بالأساطير والحكايات الشعبية والخرافة، إنها تنسج روايتها على بساط من تكاثرت الأحداث لديه فراح يسحبها حدثاً حدثاً ليتمّ عمله، إنها تقدم لنا رائعتها بكل صدق وأمانة وإخلاص.
في الأحداث التالية، نجد «كاسرا» يسيطر على المنطقة بإزاحته جماعة الدراويش بعد أن يتعلم القراءة والكتابة على أيديهم، ويدخل «الحوت» كمسيّر له، وعنصر من خارج الدائرة التي يتعامل معها «كاسر».
يتزوج اثنتين ويستعيد كثيراً من الأرحام، ولكنه لا يرزق بطفل، ويظل من بداية الرواية إلى أن يموت وهو يفتش في أرحام النساء عن طفل من صلبه. ويظهر أن السماء قد غضبت عليه فعاقبته بنسله، ويوهمه الحوت بأن امرأة أجنبية ستحمل منه وتأخذ لوريثها حصته في يوم ما عندما يموت «كاسراً “.
بالنسبة للوعي المستسلم ابن زنى الذي رآه «كاسراً «في البرية فإنه ينمو ويصبح رجلاً ثم يتزوج وينجب بطلاً ثورجياً يحارب الإقطاع ويتحدث بالشعارات التي لا تنتهي، ويسمّي المنطقة بـ «أرض النبوءة»، فقد قضى فيها على آخر صور الإقطاع وأصبحت الأرض بكاملها له، الأرض وما عليها من مزارعين ومياومين وحيوانات وشجر بكافة أشكالها، إنه المالك الأوحد، لكنه في النهاية «سيمضي يركض في الأرض، لن يجد قبراً يحتويه، ولن تستقر روحه أو يشعر بالسلام جزاء ما اقترفت يداه، وما أدت إليه أفكاره الشريرة، ابن اللقيط المارق إبراهيم الشيخ».
إن ما قام به إبراهيم الشيخ، من إدعاء أن جده كان مناضلاً ثورياً كانت الناس تكذبه، فكاسر الشيخ ليس أكثر من قاطع طريق، جمع أمواله من الفلاحين، بالخديعة واللعب والكذب والتدليس والغش، ويتعامل معه الفلاحون بالصمت والقهر بسبب الشعارات الجوفاء التي كان يطلقها بين الحين والآخر.
إن رواية «جنة عدم «تركز على العملية الكتابية، والكاتبة تركز على عملية « تقطيع النصّ «، فالقارئ عندما يقرأ رواية تقليدية يستطيع أن يركز على الحكاية وحدها، وأن يتجاهل النصّ الذي يتوسط بين الحكاية والقارئ، لكن أمام عملية «تقطيع النصّ «يظل القارئ واعياً بالنصّ، وهذه الطريقة تؤدي بنا إلى الوعي بعملية الكتابة.
في شخصيات الرواية نجد بعداً درامياً يتمثل في انتقاء الشخصية ورسمها ودراستها واختيار الزمان والمكان المناسبين لها مثل شخصيات « كاسر، ديب، شهلا «، لكن وجود بعض الشخصيات الصامتة لم يضرّ بالعمل بل أعطاه دفقاً جديداً إلى الأمام، وكأن الراوية تستنجد بكل خبراتها لتكمل رسم شخصياتها، إنّ بطل الرواية، أو الشخصيات الرئيسة «كاسر» يبدأ بقاطع طريق وينتهي بثوري، وكذلك «ديب» الذي لا حول له ولا قوة، تبقيه الكاتبة شخصية هلامية، يسمع كلام المتسلط عليه ويطيعه وينفذه, و«شهلا» النزقة الصبورة التي تحمل سفاحاً وتنتظر أن يأتي الذي حملت منه ويتزوجها, و«إبراهيم» الذي خذلته الثورة، فيتحول إلى مكبّر للصوت، وينتهي هذه النهاية «يتخبط في أرض النبوءة». هذه الشخصيات وغيرها الكثير، حملت على عاتقها النهوض بأمانة بهذا العمل الذي أسمته الكاتبة «جنة عدم».
في المعيار الزمني نجد الرواية تمتد على مسافة ثلاثين سنة، جهدت الكاتبة لتقدم لنا الناس خلالها على حقيقتهم، دون أن يطرأ أي تغير على حيواتهم وطريقة معاشهم فالناس في وادٍ وشخصيات الرواية تقبض على الحدث وتسير به، مدفوعة إلى الأمام، والناس يعملون ويكدون بصمت دون أن يتغيروا.
أحداث الرواية تجري في مكان واحد، مع أن بطل الرواية يريد أن يمتلك البحر والسهل والجبل، ليس بعمله، بل ببطشه وقوته ورعونته.
جنة عدم «رواية»
فائزة داود
وزارة الثقافة – دمشق 2008