تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


قصـصُ الرحيــل

ملحق ثقافي
8/12/2009
ضياء قصبجي

1 - كانت تكوّر الطحين على شكل دائرة لها فجوة في منتصفها، وتصبّ الماء الساخن فيها ثم تنكبّ فوق الوعاء وتعجن بقبضة كفّيها وبكلِّ قوّتها، حتى تحوّل الماء والطحين إلى عجين باتت تقطِّعه،‏

‏‏

وترقّه على وسادة كبيــرة، ثم تُدخل يدها والوسادة والرغيف إلى التنور الذي تلتهب فيه النار، وتلصقه في سطحه المحنيّ حتى يقمر وينشر رائحته الذكيّة.‏‏

سعيدة بعافيتها، ولون النار في وجنتيها، والطبيعة الساحرة من حولهـا..‏‏

لكنَّ رجلاً أوقف سيّارته واشترى منها أرغفة خبزٍ ساخنٍ.. كان وسيماً وشهماً فعشقته..‏‏

وظلّت عاماً كاملاً تُرسل نظراتها كلَّ لحظة إلى الطريق الذي أتى منه.. علّه يعودُ ليشتريَ منها مرّة أخـرى.‏‏

•••‏‏

2‏‏

اقترب موعد وصوله إلينا، هيَّئنا لاستقباله، نظَّّفنا له المنــــازل، أزحنـا الستائر، لألأ لنا المساجد، عرّشنا الورود، مددنا السجاجيد.‏‏

كان يمشي بتؤدة، يريد الوصول إلينا، ثم عجّل خطاه ووصلــنا.. جـــاء مثل الغيث للأرض العطشى، والضوء للسماء المظلمة، فرحت به قلوبنا، وأنيرت بنوره عقولنا.. حلَّ ضيفاً عزيزاً علينا فغيّر لنا عاداتنا، وحرمنـا من أمورٍ نحبها، فأشرقت أرواحنا بنور خفيٍّ، وأنيرت جوانب مظلمة من حياتنا.‏‏

أحببناه واعتدنا عليه، كأنَّه ساحر هذا الوافد العظيــم، عشنـا معـه أيّامــــاً عذبة فريدة لا مثيل لها.‏‏

فجأة رأيناه يجهِّز حقائب السفر ثم اقترب يودِّعنا رجوناه أن يبقـى فأبــى.‏‏

فـي وداعـهِ اختـنَقـتْ حناجرُنا.. وكثيراً كثيراً بَكينـــا‏‏

•••‏‏

3‏‏

كان يتسلّى بحياتي، وكنت أحسبه حياتي.. ما كان ظنّي به سيّئاً يومــاً, وما كنت أشكّ لحظة بميله لي.. الأمر أنني اكتشفت أنَّ حياتي ذات قيمة عالية، وأنَّ قلبي كنزٌ من إبداعات, وعطاءات.‏‏

كان يتسلّى بعودي، يعزف عليه ألحانه الفاشلة، وكنت أحسب أنه فنّـان جميل الروح بريء القلب.. الأمر أنني لم أسمع لحناً من تأليفه وإبداعه.‏‏

كان يتسلّى بقلمي، يسرّق كتاباتي من بين أناملي ليقرأها ويعلِّق عليها، لا ينتظر أن أنهي فكرتي أو قصّتي.. الأمر أنني ما قرأت له مقالة جيّدة ولا أنتج أي إبداع.‏‏

كان يتسلّى بالتغزِّل بعينيّ, وجمالي وأناقتي، وكنـــتُ أحسب أنه يبحث عن خبايا روحي، ويرى انعكاسات المعاني في أعماقي.‏‏

بعد حوار لا ضوء فيه. قال لي:‏‏

- أنتِ التي تريدين ابتعادي، وأنت التي كنتِ تتسلّين بحياتي.‏‏

- أنا.؟ كيف وأنا أميل إليك.‏‏

- تريدين أن أكون كما ترغبين، مادّة لتمثالٍ تشكلينه بيديـــــك.. أنا لــن أكون كما تبغين، أنا إنسان عاديّ لستُ مبدعاً ولا فناناً ولا أديباً.. لكنني أحب أن أحتويَ إبداعك بكل لحظات عمري.‏‏

و الآن سأغيبُ عنكِ مثلما تغيبُ الشمس خلفَ الغيوم‏‏

و يغيبُ الطائرُ في الرَّحيلِ.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية