إذن فالنص الأدبي لا يمكن أن يكون أحجية، ولذلك فإننا سنعمد إلى تصديق عتبات المؤلف بدلاً من الاستغراق في اتهامات لن تجدي نفعا بقدر ماتعمل على تضليلنا.
النص الذي نقترحه للدراسة رواية للكاتبة وفاء البوعيسي أحدث الخطأ الطباعي فيها لبساً، يضاف إلى كمية الالتباسات التي حفلت بها ؛ حيث ورد خطأً على غلافها أنها «قصص» فيما أكدت الكاتبة أنها رواية.
وبغض النظر عن الخطأ الطباعي، فإن هذه الرواية قد تعرضت إلى الكثير من الانتقادات والاتهامات التي انحصرت معظمها في تطرقها للمؤسسة الدينية، رغم أنها كانت رواية صادمة من نواحٍ سياسية واجتماعية أيضاً.
تنحصرُ التهمة الموجهة للكاتبة في أنها هي الساردة والبطلة في آنٍ واحد أي أنها تروي سيرتها الذاتية الخاصة بها، وقد كانت هناك جملة من الإيهامات التي قد تكون الساردة تعمدتها، وإن لم تفعل، فقد عززت هذه الإيهامات من وجوه التقارب التي يبحث عنها أي قارئٍ يدخل عتبات نصٍ أنثوي.
وسنتعرض خلال دراستنا هذه إلى التضارب والتقارب بين القص السيروي والروائي خصوصاً وأن الحكي السيروي ما هو إلا وريث القص الروائي بكل أدواته وأسلحته.
الحكاية
تسافرُ فتاةٌ ليبيةٌ لأمٍ مصريةٍ مع عائلتها إلى مصر، وتتركها والدتها مع خالها على أن يعود بها فيما بعد.
تقع القطيعة السياسية الليبية المصرية إثر توقيع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد مع الإسرائيليين , فتغلق الحدود وتقع الطفلة في مأزق كان خالها العقيم الباحث عن طفل قد شارك فيه، بتمزيقه لجواز سفرها ومنحها الجنسية المصرية.
تتوالى أحداث الرواية مصورةً انتقال الصغيرة من واقعٍ إلى آخر مختلف، يعرضها لمصادمات مع الموجودين، الذين يعلنون لها العداء إثر وفاة زوجة خالها «اعتماد» وتزوج خالها من أخرى لم تحتمل فكرة عيشها معها.
تمارس زوجة خالها الجديدة دور زوجة الأب المتوارث منذ «سندريللا» فتجوع الطفلة حد البحث فقط عن طعام، تتعرف على عائلة مسيحية تؤمن بعد أن أطعموها من جوع بدينهم غير ملتفتةٍ لخالها الذي لم يستطع تغيير موقفها المغاير لمعتقداته.
تنخرط الفتاةُ في تجارب وخبرات حسية، وتنتقل إلى عوالم صاخبةٍ بحثاً عما يسكت جوعها متعدد الوجوه «الطعام/ الاستقرار/ الأمان/الحب»
تتوه البطلة ولا تخرجها مما هي فيه علاقاتُها الغرامية، وفجأةً يظهر والدها وأهلها الذين لم تألفهم، تعود لوطنها الأم لتواجه واقعاً أكثر قساوة، حيث تتعرف على الغربة داخل الوطن رغم عدم وجود الفقر!.
السيرة الذاتية والتطابق المفترض
الكتابة السيروية إذا نظرنا إليها من زاوية العلاقة بين المتلقي والمؤلف ؛ فإنها تفترض تطابقاً مؤكداً غير قابلٍ للشك بين ثلاثة عناصر: المؤلف /السارد/ الشخصية الرئيسة.
كما وتشترط اعترافاً ظاهراً إما على شكل عنوان أو عتبة تحيل إلى الذاتية» حياتي _سيرتي / ذكرياتي ما حدث لي» أو وجود مقطع في مقدمة العمل الأدبي يتحمل فيه «السارد» مسؤولية التأليف بطريقة واضحة لا تشي بالريبة.1» فيليب لوجون، ميثاق السيرة الذاتية, ص25, 26»
و الرواية لم تعلن الاتحاد المتوقع بين السارد والمؤلف والشخصية الرئيسة، إذ بدأت بسرد القصةِ بطريقةٍ كلاسيكية تعود بالزمن للوراء، لتبدأ منذ التسع سنوات حتى مرحلة الشباب, دون أن تكون الساردة قد وصلت بالبطلة إلى عمرٍ أكبر. كما لم يتم الإعلان في أي مقطع أوليّ عن شخصٍ يتحمل مسؤولية النص، مما يجعلنا نعتقد بأنها فعل تخيليي بالدرجة الأولى استخدم تقنيات السرد السيريّة.
محاورة العنوان
العنوان هو الوسم للكتاب، وهو عتبةُ النصِ، والكشّاف الذي يعين على تجنيس العمل, وتتمثل وظيفته الأولية في إحالة القارئ إلى النص الأدبي، لذلك فهو يتوسط العلاقة بين المرسل والمتلقي حتى لا يكاد المتلقي يستبين العمل إلا عبر فعالية العنوان الخاصة إذ يحمل بين طياته خصوصية البنية النصية والدلالية والجنسية على السواء، مما يدلف بالمتلقي إلى داخل العمل مزودا بأهم مفاتيح الشفرة الرمزية له.»محمد فكري الجزار , العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبى، ص68»
إن الكاتبة قد أسمت روايتها «للجوع وجوه أخرى» دلالة على انكباب القص على مصطلح غرائزي يمكن أن يدمج داخله أصنافا من المفتقدات والرغبات «الأمان / الاستقرار/ الطعام/ الحب / الأسرة/الآخر»
وظهر اسمها جلياً على الغلاف في حين اختفى اسم البطلة التي ظلت مختفية تحت «أنا» أو»أيتها الفتاة» أو «أنتِ».
عدم وضوح اسم البطلة لايعني أنها ذات الكاتبة؛ فالسيرة تفترض وضوحاً تاماً لا لبس فيه, أي أن يتخذ السارد اسم المؤلف المعروض على الغلاف اسماً للشخصية الرئيسة. «فيليب لوجون, ميثاق السيرة الذاتية, ص25, 26».
لذلك لن نجد إحالةً بيّنة لذات الكاتبة، وتعلّل الكاتبة في أحد حواراتها ذلك بأن تنكير البطلة تعريف لها إذ أنها تعني بها كل النساء أمثالها, مما يؤكد أننا أمام عمل تخيليي لا يتحمل المؤلف فيه وزر شبهه بالواقع.
الإيهام بالأنا
استخدمت الكاتبة ضمير المتكلم لما له من أثر بالغ في الحد ما بين المسافة المتخيلة بين القارئ والكاتب، إنها تحاول أن تخلق جواً حميماً بينها وبين القارئ ليشاركها أراءها ولتستدرّ عطفه ليتجاوب معها، موظفةً اللغة لاستمالة هذا القارئ.
نراها تصف جوعها للطعام قائلة « كانت أمعائي تثور تطلب لقمة واحدة يا إلهي، أشعر أن في معدتي وحشا ًمستيقظاً لا ينام، يمزق أحشائي بلا هوادة، أشعر أن فيها أفاعي تلسع وأظافر تمزق والألم الذي يحدثه لا يحتمل « «للجوع وجوه أخرى، ص27»هذا الوصف الموغل في البؤس يشعر الآخر بجوع حقيقي يكاد يتلمسه.
ولكن لا ينبغي أن نخلط بين السارد - والضمير - وبين المؤلف القاص وشخصية البطل، إذ ليس من الضروري أن يكون ثلاثتهم واحداً عندما يكون السارد ضمير المتكلم، فقد لا يكون السارد بطلاً وإنما مجرد شاهد على الأحداث»حسان العوض, أوراق عبد الجار الفارس الخاسر:قصص محيي الدين مينو، مجلة الموقف الأدبي، عدد 384 نيسان 2003م».
جنس الكاتب والتهمة الجاهزة
الكاتب سواءً كان رجلاً أم امرأة متهمٌ في أغلب الأحيان بالخلط بين تجاربه الخاصة ونصه المتخيل خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنص الأنثوي الجريء، المتمرد عن الثالوث المحرّم «الجنس /الدين /السياسة».
والمشهد الأدبي العربي حفل بالعديد من الاتهامات التي دفعت بعض المتهمات إلى التنصل من بطولة النص، والاضطرار إلى تبرير أفكار وسلوك شخوص نصوصهن.
وهذا قد يؤدي إلى تخوف الأنثى الكاتبة من الانطلاق نحو مزيد من الحرية في التعبير المتخيل خشية الاتهامات التي لا تكتفي بالهوجسة والشكوك الباطنية؛ إنما تصل إلى قاعات المحاكم الواقعية ليقول القضاء المدني فيها كلمته الفصل.
والمشهد الأدبي الليبي شهد مؤخرا قضية تكفير للروائية الليبية «وفاء البوعيسى» إثر نشر روايتها الأولى «للجوع وجوه أخرى « الصادرة عن منشورات المؤتمر وذلك لاستخدامها أدوات تقترب من السيرة الذاتية «الحكي الاستعادي بضمير المتكلم» لتواجه قارئاً مترقباً يتوجس منها خيفة ويبطن لها التهم، خاصةً وأنها اخترقت الممنوع والمحرّم.
نماذج من بعض الاتهامات التي تعرضت لها الكاتبة:
«الرواية تشير إلى مفاهيم صاحبة الرواية, فلماذا هذه البلبلة والشطح في الاستنتاج إلا إذا كان الغرض البحث عن الأضواء العاجلة، والشهرة الزائلة، وافتعال قضية، والظهور بصورة الضحية «محمد الوليد موقع ليبيا اليوم، رد على مزاعم وفاء البوعيسى».
«لم أر شيطاناً تملك كاتباً في حياتي، أسوأ من الشيطان الذي لبس هذه المدعية وهى تشوه الفكر، وتهتك الستر، وتستهوى المكر، ولكن يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين، وكفى بما خطته يد الكاتبة شهيداً على قدرة من جعل كيدَها، في نحر أفكارها، فمن يقرأ الرواية لا يخرج إلا بملخص وحيد وهو أن الكاتبة التي سخرت من الدين واستهانت به عقيدة ً وشرعة ً لمجتمعها قبل أن تخص الليبيين من شخوص قصتها بالقدح والذم «»موقع ليبيا جيل/زكريا اللبيب»
تقاطع الذوات
الرواية تبدو وكأنها سيرة ذاتية للكاتبة المتماهية مع البطلة وهذا التماهي يتحقق على عدة مستويات تمثل مايسمى بتقاطع الذوات «ذات الكاتبة وذات البطلة « والمستويات هي أوجه التقاطع في السيرة الشخصية للكاتبة والبطلة وهذه المستويات هي:
التقارب بين الشخصيتين «المؤلفة وبطلة الرواية» ساهم في دعم توجس القارئ فهي تشترك معها في:
المرحلة العمرية/شابة
البيئة الاجتماعية /أن المؤلفة عاشت لسنوات من عمرها في المجتمع المصري, وكذلك فإن والدتها مصرية شأنها شأن البطلة .
وأخيراً
لا يستطيع الكاتب مهما بلغ درجات التجلّي واتقاد الوعي إلا أن يستلهم أجزاءً من ذاته تختلط فيها جذوره وبيئته ومواقفه, لأنه لن يقف أمام ورقاته عارياً كما ولدته أمه من كل الثقل الموروثي.
فمثلما يستحيل أن يكون هناك تطابقاً تاماً ومتكاملاً بين السارد والمؤلف والشخصية الرئيسة، لما تخفيه الذاكرة من خيانات باطنية، فإنه لا يمكن لأي كاتب أن يتنصل تماماً من عمله يقول جيرار دو نيرفال: «أن نخترع يعني في الحقيقة أن نتذكّر».