لا شك أنها عبرت الدهور وهي تهدهد العالم بكلام يشبه وفرة الحليب في ثديها,
وانتفاضة الشهوة في ناظرها، نتخيله كلاما موزونا أو غير موزون، مقفى أو حاسر الرأس طليق الجنون، تتأمل فيه انتصاب قامة الجنين في رحمها والدنيا غافلة عنها.لكن عيون الغربال النقدي الذكوري الدقيقة القاسية لم تترك حروفها الجميلة تمر إلينا، شتتتها في مهب النسيان لغرض ما قد يكون خطيرا لما تحمله إبداعات النساء من قنابل موقوتة قد تعصف بالسلطة الذكورية، لذلك وجب تفجيرها بعيدا, على هامش طريق التاريخ كي لا تفسد مسار القافلة الرتيب.
ولا شك أيضا، أن حرية الحكي بين أربعة جدران، أو حول أربعة فصول للعمر، أو عند أطراف الآخر الأربعة: السيد الزوج أو السيد العشيق: إن بين يديه وعند قدميه.ذلك الآخر المغاير الغيور، تظل أمرا مسموحا به.. أن تحكي المرأة، أن تقص، أن تعبر, أن تذلق لسانها ماشاءت لذلك سبيلا، فذلك مسموح به, مادام يسلي ثم يطوي النسيان صاحبته..
لكن أن تكتب المرأة على جدار الزمن ليمر تحته الناس تلو الناس ليقرأوها فلا ثم لا، فذاك تعد صارخ على الذاكرة والذكورة لما لهما من جذع مشترك أوجده ثم قننه الذكر في الحياة وفي المادة الرمادية للغة.
أن تحكي، أن تثرثر، نعم، لكن أن تتفلسف أوأن تتعالم أوأن تنضوي تحت جماعة الفهماء فالأمريغدو خطيرا, قد يسقط اللجام ويسقط السرج قد يتساقط التبن من حلق الغزالة المحنطة, ويعود الهواء إلى أروقة صدرها وتعود الريح إلى قوائمها فتفلت من قبضة الشبح وتنطلق تحو الأراضي الفسيحةأو نحو السحاب.
لابأس أن تحكي، أما الفهامةو التفلسف فهما “مشغلة “الذكور.. ألم تظل الفلسفة نفسها مجالا ممنوعا وقصيا على المرأة رغم إسهامها وأريد للفلسفة أن تبقى دردشة رجالية على مر العصور.
-la philosophie est une discussion entre mecs par –delà les siècles
ثم بتبجح جاهروا، بأن الفلسفة ناد له رائحة السيجار ورائحةالأعزب المسن، يمكن للنساء دخوله ولكن ببطاقة دعوة خاصة.
-La philosophie est un club qui sent le cigare et le vieux garçon, les femmes peuvent y être admises mais avec une invitation spéciale.
لماذا لا نعثر على أثر مكتوب لهؤلاء الفيلسوفات بينما تسمي كتب التاريخ عددا منهن وصل إلى خمس وستين فيلسوفة. والأغرب أن بعضهن كن ينتمين إلى مدرسة فيثاغور الشهيرة. والفيثاغوريون كما هو المعروف يشترط نظامهم على المنتسبين إلى حلقته ممارسة رياضة الصمت والتأمل لمدة خمسة أعوام. ألا يضع هذا - أيها السادة- الواصفين المرأة على أنها مخلوق تستهويه الثرثرة, مخلوق لا يكبح جماحه أمام إفشاء السر. ألا يضعهم –أيها السادة- في حرج حقيقي؟
ولأن التاريخ الرسمي الذكوري أقصى إسهاماتهن فلم يعثرعلى آثارهن الفلسفية سوى أسمائهن.
هل هو سوء الطالع يلاحق المرأة المبدعة وكتاباتها منذ القدم, فتلاحقها عين الرقيب ومقصلته؟
دون شك.
كان يستعصي على المرأة نسيان إنسانيتها وذكائها وإبداعيتها, على الرغم من العالم المختل الصاخب الذي يحيط بها، عالم ذكوري يسيل لعابه لجسدها المتحرك تحت الرأس منها، عالم يرقص حول نارأضرمها حوله, ويقيم الاحتفالات الساخنة له، والكرنفالات والأعراس، عالم ذكوري يعريه ويلبسه وينصب له القيود من الخلاخل وأساور العبودية والفخاخ والمجازر, عالم يسبح له، يسبح لنتوءاته والتواءاته وملمسه وانتفاخاته وشده وجذبه ومده وجزره.. عالم لا يحتفل سوى بالجزء الأسفل من المرأة وإن تكن مبدعة ليس يرى سواه ولا يريدها أن تلتفت لسواه لا يريدها أن ترفع ذراعيها لتتحسس فجيعة غياب رأسها أو لتكتشف وجوده .
حتى في عصر الأنوار ظلت المرأة لا يسلط عليها النور إلا لنقاش ساخن حول دماغها العجيب فهذا الديكارتي المسمى مالبرانش يذهب إلى أن الطبيعة الأنثوية، والدماغ الأنثوي في نسيجه الرقيق، بله الهش، يجعل المرأة لا تستطيع أن تدرك المجرد ولا أن تفهمه .وإذا كان يسارع ويستدرك بالقول إن هناك استثناءات فالاستثناء هنا حيلة لإثبات القاعدة، قاعدة ترمي إلى أن التخييل والتجريد عتد المرأة أمر غير وارد، وبالتالي فإن قدرتها على الخلق والإبداع معطوبة.
إذن لابأس أن تكتفي بأن تقص قصصها, لابأس أن تحكي حكاياتها، لا بأس أن تتفلسف إن شاءت.. حتى.. وليكن أن» تكتب مذكرات لن تنشرها، أوربما مراسلات لشخص محدد معلوم.. فليكن.. أما أن تكتب لمتلق في المطلق فكلا، ولا حتى أن يكتب على لسانها آخرون، كما فعل سقراط وبوذا وأبيقراط وغيرهم .أن تكتب فيقرأها آخرون في المطلق.. لا
الكتابة بأصابع نسائية تكون لشخص محدد معلوم، كتابة محدودة في المكان والزمان. فأما أن تكتب لتنتشر رائحتهاولتبعث بأحاسيسها وأفكارها ورسائلها في الخطاب الأدبي المتراوح بين الحميمية ومناظرة الند للند وترسله لشخص مطلق، لقارىء متخيل، مجهول الموقع، يرمز للبشرية كلها فذلك هوالتخطي المعلن المفضوح لحدود العبودية، نحو الانطلاق، نحو الحرية.
لاشك.. الأزمنة تعاقبت عصيبة على المرأة والمرأة المبدعة على وجه أخص.. والآن؟ ونحن في عصر تشيع فيه الكتابة وتنتشر الأفكار حتى قبل أن يجف حبرها ألاتزال الأسوار عالية مضروبة على إبداع المرأة؟ ما حال المرأة العربية المبدعة إذن وما حال كتاباتها؟
ليس غريبا أنه كلما تمادى المجتمع العربي في الغرق داخل الخيبات السياسية والاقتصادية، يتراجع بجلاء الوجود والحضور الاجتماعي والثقافي والجمالي الفلسفي والرمزي للمرأة، بل ويبدو هذا التراجع المقياس الحقيقي لما يجري من كسوف شامل.
كثيرا ما نسمع بعض أسطوانات الخطابات السياسية الدعائية وهي تقدم بزهو وبقناعة وثقة منقطعة النظير- كمن لا يأتيه الخطأ من شماله ولا من جنوبه – نسمعها وهي تقدم إحصائيات عن ارتفاع نسبة تعليم البنات في البلدان العربية, وتؤكد على أنها تفوق في بعض البلدان، إن لم يكن في جميعها، نسب الذكور.
لكننا نتساءل هل نظام التعليم في العالم العربي نظام محرر يعلم ثقافة وشرطية الحرية والحس النقدي ورفض الطاعة؟
وهل محو الأمية الحروفية يرادف محو الأمية الثقافية؟
مطلقاً لا.
غالبية البرامج التعليمية في العالم العربي تكرس الأمية الثقافية, وتعمق العمى الجمالي والثقافي والسياسي والحضاري.
حقا فالتعليم غير المحرر، تعليم يعكس فشل الحكومات العربية وعدم قدرتها على الانخراط في منظومة المتغيرات العالمية الجديدة.
أمام هذا الواقع المختل وداخله، تبدو تجربة الكتابة لدى المبدعة العربية الجارحةوالجريحة خزان غضب، كثير من الغضب.غضب نخبوي لا يعكس دائما صورة المرأة في واقع المجتمع العربي الذي يراكم ثقافة الخنوع والولاء.
إن كتابات المرأة العربية على الرغم من جرحها العميق المحيل على الواقع الحاد، الاجتماعي منه والسياسي والاقتصادي والديني، إلا أننا نلاحظ غياب الانشغال الحقيقي بها وغياب النقاشات الفلسفية التاريخية الجادة التي من المفروض أن تتساءل بإلحاح ومرارة عن خلفية هذا الغضب وذاك الألم.
للأسف ما يلاحظ هو أن الحديث النقدي المتابع اختزل في منحى واحد، منحى يختصر في «الخروقات» التي مثلتها بعض نصوص الكاتبة العربية في الجنس أو خرق الأعراف أو غير ذلك.
الغريب أن مشهد النقاشات النقدية والثقافية والاعلامية التي تابعنا فصولها في العشرية الأخيرة، تلك النقاشات والمتابعات والقراءات التي رافقت نصوص الكاتبات العربيات، تشعرنا بأن المجتمع الثقافي والسياسي العربي الذي كتبت عنه أو له أو ضده، يقابل هذه الكتابة، إما بفرجة أو احتفاء أو رفض وجفاء, وأعتقد أن المتابعات بالطريقة هذه لا تعكس الانشغال العميق الذي ترمي هذه الكتابة النسوية العربية إليه، في معالجته بالأساس لفكرة انهيار قيمة الإنسان العربي إن بطريقة تصريحية أو إيحائية.
حين نشرت ليلى بعلبكي كتابها «سفينة حنان إلى القمر» - مثلاً - قوبلت بمحاكمات وبنقاشات أدبية وأخلاقية ودينية حادة، بين معارض ومساند ومع ذلك ظلت النقاشات تلك مرتبطة بما يعكس انشغال المجتمع الثقافي والسياسي والأدبي حيال ما كتبته.
غادة السمان بدورها جاء ت لتعلن بداية الانهيار الذي عرفته الذات العربية عشية هزيمة 67وانهيار خطابات الناصرية وانكشاف أعطاب القومية العربية.
إن الشجاعة التي كانت تكتب بها المرأة العربية في النصف الأول من القرن الماضي هي شجاعة مؤسسة داخل صعود حلم الحريةوالتحرر فالنصوص الأدبية تلك كتبتها المرأة في النصف الأول من القرن الماضي في ظل صعود واضح لمشروع الدولة الوطنيةومشروع التحرر الوطني
ولكن ما حالنا اليوم؟
شجاعة أسميها بينما يسمها آخرون بالتهور، وليكن.. تكتب بها المرأة بجرأة مبنية ومؤسسة داخل تفاصيل شيطان النكسة والانحسار والتراجع والخيبة الذاتية والجماعية.
أما اليوم فلا عجب أن تكون الكتابة الغاضبة بأنامل النساء في العشرية الأخيرة تنشئ كياناتها داخل مرحلة اجتماعية وحضارية وسياسية وتعلن عن انهيار أحلام الدولة الوطنية وتحولها إلى أوهام زائفة, وهو الأمر الذي دفع بهذه الدولة إلى اعتناق الماضوية، اعتناق الصفر من جديد كسبيل للتنكر لكل قيم الحرية.
تكتب المرأة العربية اليوم في ظل أخواف جديدة- وليسامحني سيبويه على هذا الجمع المعاصر- تحاصرها من كل الجهات: خوفها من رجل السياسة، خوفها من المثقف، وخوفها أيضا من ابنها وابنتها وجارها وأخيها وخالها.. . يعلن هذا الخوف بكل أطيافه عن عودة الهيمنة القوية للصوت القبلي على الواقع العربي الراهن في الثقافة والإبداع والسياسة.
كانت كتابات الأديبات العربيات، في النصف الأول من القرن الماضي، حتى نكسة 67، في شجاعتها وتحديها، تحاول دائما الخروج من الكومينوتير «التجمعن» – إذا صح التعبير- إلى فضاء الفردي والفرداني بكل ما تضمنه فلسفة الفردانية من حريةوانطلاق نحو الابداع، أما الآن فالكاتبة العربية الراهنة تبدووكأنها تكتب صراعها المرير من أجل الحفاظ على فردانية يجرفهاويهددها فكر كومينوتاري شمولي.