الأدب الذي تكتبه المرأة.. إلخ. إذ كُتِبَ عنه الكثير، بل وربما أكثر مما يجب شرقاً وغرباً دون الإفضاء إلى اتفاق قطعي بهذا الشأن، فانقسم المناقشون إلى فِرق عديدة يمكن إجمالها بين مؤيد ومعارض، وعادة ما نجد أن الغالبية تميل إلى اعتبار نوعية النص وقيمته هي الأهم بغض النظر عن جنس كاتبه.
إلا أنني وبحكم الالتزام بمحور موضوع الندوة ونية الحديث عن الأدب الذي تكتبه المرأة لا أرى ضيراً في هذا التصنيف باعتباره أمراً إجرائياً تفرضه الآلية الموضوعية والعملية حين يتم الشروع بالتأمل أو البحث في أي ميدان كان، أي يتم تحديد منطقة البحث وموضوعتها وإن كانت جزءاً من كلٍّ أشمل لكي لا يتم تشتيت الجهد في إعادة تعريف وسوق تعريفات لعموميات أصبح لدينا الكثير من ركام تعريفات لها. وعليه فإنني أفترض وآمل وأطلب أن يتم تجنب الحساسية المعتادة وخاصة من قبل النساء المبدعات كلما تم الحديث عن هذا الأمر أو تم اللجوء الإجرائي إلى هذا التصنيف، وهي حساسية مفهومة ولها ما يبررها أحياناً إلا أنها تسقط، في أحايين أخرى، فيما يمكنني أن أسميه بحساسية إسقاطية تربط الأمر بقضايا المرأة الأخرى لأنها تخشى سوء النية في استخدام هذا الاصطلاح التصنيفي.
عن الحرية
دون شك، إننا نعني هنا حرية القول والتعبير، والتي تعد من أولويات حقوق الإنسان وأساسياتها وخاصة أنه كائن تعبيري يميزه النطق واللغة عن سائر المخلوقات وتشكل سمة جوهرية من سمات وجوده.
لقد عانت الإنسانية شرقاً وغرباً على مدى قرون طويلة من قمع بعضها لحرية رأي وقول البعض الآخر، ولا زال بعضها يعاني ذلك في بعض مناطقها وميادينها، إلا أنها وفي كل الأحوال، وبعد نضالها الشاق والعظيم والطويل قد وصلت اليوم إلى مرحلة يمكننا وصمها بأنها قد امتلكت ناصية حرية القول والتعبير بشكل عام. ولننطلق من هذه الملاحظة أو هذا الافتراض لإنها وإن لم تضمن حرية القول الكاملة في كل مكان وميدان حتى الآن فلا يمكن إنكار ما حققته من انتصار كبير في هذا الشأن وإذا بقي ثمة نقصان فيها فإنما هو الأقل وفي طريقه إلى الزوال، عدا ذلك فإن الأدب ومسألة اختيار ممارسة الأدب بحد ذاتها هي ممارسة للحرية، فلا أحد يجبر أحداً على أن يكتب أدباً تحت الإكراه وإن حدث ذلك فللأدب قدراته اللامحدودة على تسريب كل ما يريد قوله من خلال الإبداع الفني والتي من أبسطها اللجوء إلى الترميز والإيحاء وطبيعة الاشتغال اللغوي ذاته، الأمر الذي يمنحه قوة أكبر في أغلب الأحيان، والروائع الأدبية التي تم إنتاجها تحت ظروف عسيرة قامعة عبر التاريخ يصعب حصرها وقد تكفي الإشارة بهذا الصدد إلى أم الرواية الحديثة، ألا وهي رائعة ثربانتس «دون كيخوته دي لا مانتشا» والتي شرع بكتابتها في السجن وفي أوج مرحلة تسلط محاكم التفتيش، سانتا تيريسا وسور خوانا اللتان كتبتا من داخل البيت الكهنوتي ذاته والشاعرات الجواري.. وغيرهن.
اليوم وها نحن في عصر التكنولوجيا بحيث أن من يشاء يستطيع أن يقول ويكتب ما يشاء بمطلق الحرية وينشره على الملأ، لم تعد الرقابات ذلك الحاجز أو القيد المستعصي على الكسر، وأي إنسان أينما كان، وخاصة إذا كان مبدعاً، فإنه لن يعجز عن إيجاد أو إبداع وسيلة لإطلاق قوله وإيصاله.. إذاً وبشكل ما، يمكننا القول، أو على الأقل الافتراض، الذي له ما يبرره واقعياً، بأن الحرية أو سبل الحرية صارت متوفرة أو متاحة لمن يشاء أن يقول ويكتب ما يشاء وإن كان يسر توفرها أو طبيعة بعض الصعوبات التي تواجهها تختلف من مكان إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، إلا أنها ولحسن الحظ متوفرة أو أنها أيسر في الغالبية الأكبر من بقاع الأرض.. وهنا، وبعد هذا الطرح أو حتى هذا الافتراض يأتي علينا دور التأمل والتساؤل عما بعد هذه الحرية، وعن نوعية وبعض سمات هذا المنتج شكلاً ومضموناً، دافعاً وغاية، والذي يهمنا منه هنا، بالطبع، الأدب الذي تكتبه المرأة.
ما بعد الحرية
لم يعد اليوم أمراً مستهجناً أو نادراً أو غريباً أن تجد في المكتبات كتباً بمختلف الأصناف والأجناس الإبداعية تحمل اسم امرأة كمؤلف لها. لقد أصبح أمراً طبيعياً وعادياً في كل الثقافات. إلا أن الملاحظ وما يتبادر إلى ذهن المتلقي عند رؤيته ذلك هو ما يمكن أن نصفه أو نحيله إلى جملة خصائص خاصة بأدب المرأة تمت بلورتها بالتدريج والتراكم وللمرأة دورٌ كبيرٌ في هذا، ومن هذه الخصائص بشكل عام:
1-أن المرأة لا تزال تتمركز وتكتب عن المرأة وعن كل ما يتعلق بمواضيعها أكثر من تناولها لمواضيع أخرى خارجة عن ذلك ويتم تبرير هذا من قبل الكاتبة بكون أن مشاكلها الخاصة والداخلية لم تحل لحد الآن لذا فهي لا تنشغل بالقضايا الكبرى أو بتلك البعيدة عنها، وعليه فإنها حتى وإن كتبت عن أو في مواضيع أخرى كالحرب والسياسة والخيال العلمي أو كما يحدث الآن من موضة الرواية التاريخية فغالباً ما تكون الشخصية المحورية أو الشخصيات الرئيسية هي شخصيات نسائية.
وعادة ما تنطلق من الحس والمواضيع التي صارت تقليدية إلى حد ما، كعدم المساواة، والظلم من قبل الرجل، والغدر، وكونها ضحية، وسوء فهم الرجل لطبيعتها ومشاعرها وذهنيتها، إشكالية العلاقات الشخصية والحب والجسد، إبراز ذكائها وتصوير ذاتها كونها متفوقة ومدهشة في حدة الذكاء، تحمسها وتبريرها ودفاعها عن كل ما هو نسوي، ومن مواضيعها الأثيرة أيضاً، العزلة، والخوف، والصمت، والفقد والألم.. وبشكل عام فغالباً ما تكون الدوافع وما يطغى على نصوصهن صبغتي: الإدانة والشكوى.
2-على الرغم من بداهة توافر الرؤية والحساسية الخاصة بالمرأة إلا أنها لا تزال تكتب وهي تحاول الالتزام بشروط الرجل في الكتابة واستعارة أدواته وأساليبه وحتى لغته وخطابه أحياناً. لذا فهي لم تبتكر لحد الآن تقنية بعينها أوجنساً أدبياً يمكن الإشارة إليه على أنه جنس كتابي نسائي بامتياز، كما أنها لم تتمكن من ابتكار كم من الشخصيات الأدبية النموذجية سواء أكانت رجالية أو نسائية كالتي أوجدها الأدب المكتوب من قبل الرجل، على سبيل المثال: شخصية الدون كيخوته لثربانتس، مدام بوفاري لفلوبير، آنا كارنينا لتولستوي، غريغوري لكافكا.. وفي الأدب العربي شهرزاد ألف ليلة وليلة، مصطفى سعيد للطيب صالح وسيد عبدالجواد لنجيب محفوظ.. وغيرهم، ويتم تبرير ذلك بكونها قد تمكنت من المشاركة في الكتابة بوقت متأخر عن الرجل ولذا فهي تستخدم أدواته كخطوة أولى لتبرهن على قدرتها إلى أن تتمكن لاحقاً من تمييز صوتها الخاص أو إيجاد أدواتها وأجناسها الأدبية الخاصة بها، فالأدب النسائي لم يمر بمراحل طفولة ونمو وشباب ونضوج خاص به، وإنما دخل الميدان كما هو، الأمر الذي يدللن به أيضاً على سرعتهن في التعلم.
3-كانت المرأة هدفاً وموضوعاً أو مادة للأدب ومنه الشعر بشكل خاص حيث يصوغها الرجل وفق رؤيته وما يريد هو أن تكون عليه، أما الآن فإنها تسعى لكسر حواره الداخلي الخاص عنها وأن تتحدث هي عن نفسها بنفسها إلى الحد الذي بالغت فيه أحياناً بنقد كل ما يرسمها برومانسية ونقد الحب الرومانسي، وعلى هذا النحو يمكننا تلمس عدة ردود فعل ومنها، أولاً: ميلها نحو الواقعية بشكل أكبر فتهتم بالأحداث والمنطق والتصوير الواقعي، وثانياً: أنها في تعمدها لتغيير أو حتى لقلب المعادلة، أي أنها تحولت من هدف لكتابة الرجل ومادة لها إلى أن يكون الرجل هدفاً ومادة لكتابتها، تحولها، كما يتم الوصف: من مفعول به إلى فاعل. فجاء هذا الأمر بصيغتين أيضاً، إحداهما: أنها راحت تمارس حياله ما انتقدته فيه، أي أنها تعاملت معه وصورته بالرومانسية التي تريد. أما الصيغة الثانية، وهي الواقعية، والتي فيها ما يشبه رد الفعل، فقد عمدت إلى تحجيمه أو حتى السخرية منه وتصويره على أنه سطحي، سهل، ضعيف، بدائي، ساذج أو حتى غبي أحياناً. وبشكل عام لم تتمكن الكتابة النسائية حتى الآن من الغور عميقاً في تحليل وتفكيك الطرف المقابل/الرجل وبالمستوى الذي فعله هو حيالها.
4-حرصها على التوضيح وطغيان الأساليب المباشرة وتوظيف اللغة اليومية والتقنية اليومية، وقصدية استخدام المفردات والتسميات الصريحة والمباشرة، وخاصة تعمدها أحياناً لاستخدام تلك التي تراها الذهنية العامة غير مهذبة، أو على الأقل لا يُتَوَقَّع أو يفترض أن تتلفظ بها المرأة. وهذا أمر لم نكن لنلاحظه سابقاً في النصوص النسائية الأقدم والتي كانت تكتب في ظل ظروف أصعب ومناخات أقل تحرراً وحرية.. وصعوبات دخول وتواجد المرأة في الميدان والوسط الثقافي، لذا كانت تشتغل على نصوصها بجهود مضاعفة الأمر الذي كان يجعلها أكثر عمقاً وثراءً وقابلية في فتح آفاق تعدد التأويلات بما تنطوي عليه من تورية وغموض وترميز وإيحاءات ونسج لغوي مصاغ بعناية وحذر ووعي مدروس.
نلاحظ أيضاً بأن المرأة توظف الحدس كثيراً في أسلوبها وترى أنها متفوقة فيه عادةً وبأنه مما ينسجم ويناسب الأدب بشكل كبير. هذا إلى جانب أنها تلجأ إلى السخرية أحياناً وإلى الشعرية في أحايين كثيرة.
5-أثر واستجابة الكتابة النسائية لاشتراطات ومتطلبات السوق بشكل يفوق أحياناً طبيعة استجابة الرجل لها. يدرك الناشرون عموماً بأن نسبة القراء من النساء تفوق نسبة الرجل بحيث يقدرها البعض بكونها تصل 70% تقريباً مما يؤثر ذلك حتماً في حساباتهم فينشرون أكثر لنساء يكتبن عن مواضيع نسائية، وتلك التي تكتبها النساء وتهم أو تثير فضول معرفة الرجل لها. وبالطبع يجب التمييز أيضاً بين ما تكتبه النساء للنساء من أجل السوق، والروايات الرومانسية، أو الجنسية من أجل البيع وغيرها، حيث اتسع سوق النشر للكتابة النسائية وتعدد وتنوع بشكل كبير، فنجد الكتب الخاصة بالنصائح لكيفية العيش السعيد، كتب الصحة، والجمال، والأمومة، والعائلية، والطبخ، والأزياء، والحب، والجنس، والنفسية، والعمل، والفضائح، والتنجيم.. وغيرها هذا عدا مختلف الأجناس الأدبية. حتى أن برزت ظاهرة وجود دور نشر متخصصة بشأن معين وأخرى خاصة بأدب النساء، ومنها حتى ما تخصص بأدب السحاقيات.
وبشكل عام فقد صار النشر للنساء الآن أسهل بكثير مما كان عليه، بل يبدو إلى حد ما بأنه أيسر من النشر للرجال. وأحياناً حتى لأسباب خارجة عن مقاييس الجودة واشتراطات الفن الأدبي. الأمر الذي أدى إلى استسهال الكتابة أيضاً.
إذا كانت المرأة الكاتبة تنزعج من تصنيف أدبها بالنسائي فلماذا تعمد أو ترتضي بنشر أنطولوجيات خاصة بالأصوات النسائية مثلاً، فإذا كان لهذا الأمر ما يبرره فيما يتعلق بكاتبات وشاعرات خمسينيات القرن الماضي ومن سبقنهن، فلم يعد اليوم من مبرر له مادامت المرأة قد حققت الكثير من الحرية والمساواة وهي نفسها تطالب أن تعامل النصوص على قدم المساواة بغض النظر عن جنس كاتبها!!
6-عندما تكتب المرأة عن مواضيع أخرى غير مواضيع المرأة كالروايات البوليسية وروايات التشويق والجريمة والخيال العلمي فإننا نجدها تكتب كالرجال وكأنها تتعمد إخفاء أية بصمة خاصة بها وبمكونات فطرتها الطبيعية.
7-من المواضيع الأخرى والجديرة بالاهتمام من حيث عمقها وجديتها تلك التي تتعلق بكشفها لخيوط ما يمكن تسميته بخدعة المساواة وخدعة الحرية، فقد حققت المساواة في تكافؤ الفرص والعمل والقوانين وما يترتب فيها من مساواة في الحقوق والواجبات إلا أنه بقي عليها خارج ذلك عبء كونها زوجة وأم وربة بيت بكل ما ينطوي عليه ذلك من تفاصيل العمل المنزلي والالتزامات الاجتماعية والعائلية. من هنا تتطرق أيضاً إلى شائكية أو حتى سوء العلاقات الشخصية بين الحبيبين أو الزوجين، فتطرح صعوبة أو حتى استحالة الحب الحقيقي في العصر الحديث في ظل الحرية وفي الوقت نفسه تحت وطأة المشاكل الاقتصادية المعاصرة، وكذلك نجد بعض الكاتبات ممن تشغلهن قضية تدهور القيم الأخلاقية والحضارية والإنسانية أو حتى فقدانها أحياناً.
تفضح الكتابة النسائية سطحية الشعارات والمفارقة بين القول والفعل، بين ما هو مكتوب ومنصوص عليه وذاك المسكوت عنه أو ازدواجية المعايير كمطالبتها بأن تعمل وتنتج كالرجل في ميدان العمل وفي الوقت نفسه مطالبتها بأن تكون بالصورة النمطية في العلاقات العاطفية والعائلية. وتشير إلى أن الذهنية العامة شرقاً وغرباً لا تزال تتعامل مع المرأة بمرتبة أضعف والدليل أنه وحتى الآن تفرض نسبة الحصص «الكوتا» المخصصة للنساء في الكثير من البرلمانات لأنها لو تركت لحرية الانتخابات فإن الذهنية العامة ستصوت لها بشكل أقل، وعلى صعيد المؤسسات الدينية فإن الرجل هو الذي لازال يحتكر الأمر والخطاب ويحلل أو يحرم حتى في المواضيع التي تخصها هي كمسألة الإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج وغيرها.
كما نلاحظ بأن المرأة أكثر قدرة على البوح الداخلي والاعتراف الحميمي من الرجل، إلى جانب سعيها أيضاً لأنسنة العولمة بشكل أكبر بدل هيمنة السمة المادية عليها.
8-ثمة انقسام عام بين نساء لازلن متحمسات وينشطن بإفراط حد التعصب ضمن طروحات «الحركة النسوية» التي انطلقت مع عقد سبعينيات القرن الماضي، وقسم آخر منهن لايتفقن معها ويرين بأنه لم يعد لها ما يبررها الآن وبأن الموضة قد تجاوزتها، بحيث نجد أحياناً ما يشبه حنيناً إلى عودة معاكسة تريد منها أن تعامل كامرأة، كائن رقيق عائلي حساس رومانسي وسيدة للبيت متجنبة خشونة التصادمات وقسوة العمل في الخارج. على خلاف القسم الأول الذي يرى بأن الذكورة قد فقدت هيمنتها إلى الأبد، كما أنها لم تعد منفردة بحيازة أي تيار أو اخترع جديد في العصر الحديث، وبأن الخطاب والنص الذكوري هو الذي قد تجاوزته الموضة، ويطالبن بمراجعة مجمل الخطاب بما في ذلك إعادة تأويل الخطاب الديني، فيقلن في المسيحية، ماذا لو كان الرب أماً وليس أباً؟ عندها لن يعمل أو لن يسمح بقتل ابنه.. وهكذا لتغير التاريخ والذهنية الإنسانية بمجملها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•د.محسن الرملي: كاتب وأكاديمي عراقي يقيم في إسبانيا، أستاذ في جامعة سانت لويس الأمريكية بمدريد.