تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


محمد العشري.. راوي الرمال

كتب
الأربعاء 8-2-2012
باسم سليمان

يدرك محمد العشري, إنّه في الأصل الحكاية, لذلك يقيم روايته “تفاحة الصحراء” على حكاية عشق “عبد الرحمن” للإنكليزية “ دونا ماكسويل” ولكن هذا المعمار يشبه أثر المشي على رمال الصحراء ما تلبث أن تمحيه الريح ليجدده الماشي في مكانٍ آخر في تفاصيل السرد.

من شجرة عبد الرحمن يظهر ”صميدة” الراغب بالعمل في حقل “البريمة النفطي” كأخوته ويهجر رعي الإبل, فيلتقي الجيولوجي “ تامر الدكر” المغرم باقتناص كنوز هذه الصحراء وبنفس الوقت الراغب بالهروب منها مع حكاية عبد الرحمن وغيره من شخصيات تخيلية وتاريخية واقعية, كالجنرال “ مونتغمري” وحربه الضروس مع “رومل” في منطقة العلمين حيث تتموضع قرية “ الضبعة” التي بذاتها نشأت من أسطورة/ سراب هذه الصحراء و”كيوديني “ الإيطالي القائم على مقبرة العلمين حيث يأتي الناس لتفقد موتاهم والبكاء عليهم ووضع الزهور و”عبد الرحمن” الحارس لهذه المقبرة الذي يتنسم شذى “دونا” في رائحة الصحراء وفيما قد مرّ عليه الزمن وهرم وصدئ كما صدئت المدافع والألغام في تلك المنطقة, تدخل فتاة يبهره شيء فيها يرجعه شاباً, هذه الصبية تسأل القائم على المقبرة” كيوديني” عن أمها وأبوها المدفونين؛ لقد كانت ابنة” دونا ماكسويل”.‏

هذه هي الحكاية أمّا الرواية, فهي الصحراء, ابتداءً من العنوان” التفاحة” يتداعى لذهن القارئ, تفاحة الغواية في بداية الخلق وتفاحة نيوتن وتفاحة الاتصالات والمواصلات, تشتغل هذه التفاحات كثيمات عاملة, فتفاحة الغواية, تدفع عبد الرحمن إلى عشق دونا وتفاحة الجاذبية تدفع العالم للتقاتل على بطن هذه الصحراء وتفاحة الاتصالات والمواصلات تدفع لغزو بطن هذه الصحراء وامتصاص دمها, فالجيل الجديد يحج لبئر البريمة النفطي يهجر دالات صحرائه ودلالاتها وأيضاً القادمون من خارجها كتامر وجون وقبلهم القادة العسكريين لامتلاكها كلّ بطريقته وأيضا أبناء من ماتوا على هذه الأرض, جعلوها مقبرة واسعة مملوءة برفات أحبائهم والألغام, ينثرون عليها عواطفهم وتنثر عليهم ذاكرتها وانفجاراتها.‏

الغواية: يدفع عبد الرحمن أصابعه ثمناً لأنه عشق من غير نسائها, كذلك تامر الدكر الذي لم يجد فيها مكاناً إلا لنزوات صيده وضجره, يفقد وظيفته بعدما انفجر فيه لغم أطاح به وبجون والآخرون رهن لذكرياتها من خالد الليبي الذي جاء يبحث عن رفات البحارة الليبيين الذي قتلوا بعدما شُك بأنهم يحملون مرض التيفوس وكيوديني صاحب سجلات الموتى والأجيال الجديدة التي تقطع جذورها مع الصحراء.‏

البنية الرملية للسرد: تتعدد الحكايات وتتقاطع وما أن تمسك بها تتسرب من بين يديك لتندمج في هذا الكل الذي يبدو من بعيد كأنّه جبل صلد لكن ما أن تقربه حتى تكتشف أنه حبيبات رمل متفرقة, هذه الطريقة وفرّت على محمد العشري أن لا يثقل روايته القصيرة بمحمولات سردية تأصيلية, تدفع إليها أحقية الشخصيات بالوجود ولكنه استعاض عن ذلك ببناء شخصية الصحراء باعتناء كبير تناولها بجوانب بيئية وجغرافية وتاريخية وعليه وضع نقاطه المتخيلة والواقعية, فالشخصيات أقرب لربيع الصحراء سريعة النمو سريعة الزوال ولكن بحضور قوي عبر قصص قوية تصلح لوحدها أن تقوم بمعمار قصة ما وعليه عمد إلى نثرها وقطع أثرها تاركاً لها حرية الظهور في الوقت المناسب.‏

الرواية سؤال الحاضر للماضي وهنا تكمن المفارقة والقطيعة, فناس الماضي للماضي وناس الحاضر للحاضر!؟, رغم أن الماضي مازال فاعلاً بحدة بواقع الحاضر لكن الكلّ يغفل عنه, كما الألغام المزروعة في الصحراء الغربية وهكذا بين فينة وأخرى يحدث انفجار, قد يطيح بيد أو بإنسان أو بمنطقة كاملة.‏

أنجز محمد العشري رؤيته بسلاسة عبر لغة متقنة التوصيل قليلة الحشو وشخصيات منتقاة بدقة مع نهاية ترضي القارئ حسب مستويات قراءته, فعودة ابنة دونا نهاية للحكاية وانتهاء عمل تامر وشغل أولاد عبد الرحمن بالبئر النفطي وغيرهم من أولاد قرية “الضبعة” بداية الرواية المفتوحة على الاحتمالات وتجد رواية” تفاحة الصحراء” حاضنتها السردية في روايات إبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف ما وفر لها دخولاً جيداً عند قارئها.‏

من الرواية:‏

(قطف وردة حمراء من تحت المدفع، ابتسم وقال:‏

- يا له من مكان عبقري!‏

.. كيف اهتدوا إليه..‏

.. لابد أنهم قد اعتمدوا على البدو في السير والتنقل، وإلا غرقوا‏

في تلك المتاهة الجهنمية.‏

رأى الشمس على وشك أن تدخل في قلب السماء، ركب عربته، نزل بتأنٍ وهدوء. حين لامست العجلات أرض وادي “الحديج” دفع البنـزين، هرب في اتجاه الممر الذي أتى منه، دخل في الطريق الممهد بالحصى في اتجاه البريمة، التي يعمل بها.‏

* عَفّرت العربة الفضاء خلفها، مكونة سحابة من الغبار التفت حوله ومنعت عنه الرؤية، ضاعف سرعته خوفـًا من الغرق في موج التراب الهائج، دقق النظر أمامه، أبصر كتلة كبيرة تسد عليه الطريق، هبط على الفرامل بقوة، فزعقت تحت قدمه، دفعت العربة إلى الدوران حول محورها.‏

تطاير دم الغزلان، سال من فوق كتفيه، نتيجة ارتطامها بظهر مقعده، خرج متأففـًا، وهاشـًا الجملين النائمين في عرض الطريق غير عابئين به، فقط حركا رأسيهما في اتجاه الزوبعة التي صنعها، ورجعا يلوكان ما تحت أضراسهما، ويكملان حوارهما.‏

اقترب منهما، فأرغيا وأزبدا.. تراجع خوفـًا.‏

تساءل:‏

- ما العمل؟‏

نظر في ساعته، متكئـًا بجذعه على مقدمة “الجيب”. فعلى جانبي الطريق الممهد الأرض مفخخة بالألغام، لم يتم مسحها مثلما مُسحت المنطقة التي يذهب للصيد فيها، التي تحتوي على إرشادات بالحجر الجيري المدهون بالطلاء الأبيض الناصع – حجر كبير أو حجرين فوق بعضهما على مسافات متقاربة – تبدو كهياكل آدمية منحوتة.. بالتجوية، واقفة في الخلاء كرؤوس مُعممة، فوق أجساد متكئة على جوانبها، ملتفة في حلقة سمر، نارها الهادئة تلمع في ضوء القمر، شايها وقهوتها يُسربان رائحة “الشيح”، فيستطيع أن يميزها حتى في الليل ويمشي على هديها.‏

وقف تائهـًا في الفراغ المحيط به، يفكر في المدى اللانهائي، الذي ضاق حوله فجأة، ولا يجد ممراً ينفلت منه إلى موقع الحفر.‏

تخلف الجملان عن القافلة الشاردة في الصحراء في أماكن خطرة، لا يجرؤ أحد على أن يطأها بقدمه، فمع كل خطوة من خفوفها ينتظر الناظر إليها أن يهب لغم من نومه وينثرها أشلاءً في الهواء.‏

Bassem-sso@windowslive.com

الرواية من القطع الصغير لكنها تمور بالتفاصيل. - تفاحة الصحراء لمحمد العشري صادرة عن دار العربية للعلوم- ناشرون طبعة ثالثة 2012‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية