|
من سحر الكلمة.. إضاءات لم يكن هناك ما يقدر على إزعاج عشاق اللغة منهم أكثر من نصٍ لا يحسن التعامل معها، وكم من مرة سمعنا عبارة استياء على شكل سؤال متنكر مستنكر، كالقول: «ألم يتعلموا العربية في مدارسهم؟..» أو: « أي لغة تلك التي يكتبون بها؟..» لكن الحال كان يختلف كلياً مع نصوص بذاتها، كانت تستحضر (طقوساً) مختلفة.. عادت تلك الذكريات التي مضى عليها أكثر من ربع قرن وأنا أتصفح الكتاب الجديد للسيدة الدكتورة نجاح العطار، الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب في أربعمئة وثمانين صفحة، تحت عنوان «من حديث الشعر»، ضاماً مجموعة ثرية من المقالات والدراسات التي كتبتها ما بين عامي 1968و2005 عن شعراء عرب (وضمنهم شعراء سورية بطبيعة الحال)، وعالميين، كانت لهم مساهماتهم الخالدة في الأدب الإنساني.. قلت (أتصفح)، وفي الواقع توهمت أني أتصفح، إذ أني لم أغادر الكتاب حتى آخر صفحة منه، متنقلاً بين متعة اللحظة، وذكريات تستجلبها كثيرٌ من نصوصٍ حضرت مناسبات تليت فيها بعضها، وقرأت بعضها حين نشرت في هذه الصحيفة، قبل أن يقرأها أي من القرّاء، وهو ما يعيدني إلى الحديث الذي بدأت به. فحين يرد إلى الصحيفة نصٌ للدكتورة نجاح العطار، يتخلى المصححون عن وظيفتهم، ويتحولون إلى قرّاء شغوفين، بل وفي أحيان كثيرة إلى طلاب نهمين لمعرفة ما هو مخبوء في لغتنا. وكم من مرة دعاني محمود اللحام ونايف شقير وحسن حسن وسواهم، لأشاركهم متعتهم السامية بتلك الصياغات اللغوية البارعة التي تجعل النص النقدي موازياً في سحره للنص الإبداعي..وربما يترجم هذا بعضاً من رغبة قديمة للأديبة المثقفة يوم قالت: «وددت أن أجاوز النثر إلى الشعر».. لن أغامر في محاولة عرض الكتاب فليس فيه ما يمكن الاختصار، أو التخطي، لكني أثق باتفاق من سيقرؤه معي، بأن نصوص الكتاب لا تكشف عن عمق الثقافة الأدبية، ورهافة الحسّ النقدي والبحثي للدكتورة العطار فحسب، وإنما تؤكد ما عرفناه عنها من رحابة إنسانية ثقافية، وانتماء وطني عميق الجذور، عالي الآمال. فقد ضمت دفتا الكتاب دراسات، ومقالات، هي بدورها أشبه بالدراسات، لم تقيد نفسها بإضاءة التجليات الإبداعية للشعراء الذين تحدثت عنهم، على أهمية ذلك،وإنما غاصت بعمق في مناخ الزمان، والحدث، الذي عاشوه، وفي أصول فكرهم الوطني والقومي والإنساني، فهما (المناخ والأصول) المنطلق الأساس لإبداعاتهم الشعرية. والدكتورة العطار على معرفة وثيقة بكليهما، بحكم كونها أديبة وباحثة واسعة المعرفة والمعارف، وبحكم عملها الطويل والمديد في مجال الشعر، قراءة ودراسة ونشراً، بدايةً كدارسة، فصاحبة قرار في مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة، ومن ثم ترؤسها للمؤسسة الثقافية في سورية لفترة طويلة، هي من أزهى وأغنى سنوات العمل الثقافي، وفيها تم نشر عدد مهم من دواوين كبار الشعراء العرب والعالم يتقدمهم ديوان محمد مهدي الجواهري، كما تم تكريم شعراء آخرين، ومنهم شاعر «تشيلي» العظيم «بابلو نيرودا ».. وبحديث الذكريات، أيضاً، أختم.. وتستحضرها هذه المرة أبيات للجواهري، نشرت على الغلاف الأخير للكتاب. والعودة هذه المرة إلى أواخر السبعينات، وكنت قد رافقت أمي، بناء على رغبتها، ورغبتي، لحضور ندوة أدبية عن الجواهري في «النادي العربي» بدمشق. تحدثت فيها الدكتورة العطار بدايةً عن سيرته الأدبية والإنسانية بعمق وسلاسة، ودفءٍ أرخى روحه على المكان. فلما اعتلى الشاعر الكبير المنبر أهدى لـ «ريحانة الأدب المصفى.. تحية الأديب للأديب».. متحدثاً عن قصيدة له رغب أن تنشر في ديوانه الذي أصدرته وزارة الثقافة، ولم توافق (الوزيرة) على ذلك..ثم توجه بحديثه لها مرفقاً ابتسامة وديعة بدعابة أدبية، والقول:«لكنك اليوم لن تستطيعين منعي من إلقائها».. ليتلو أمام الحضور رائعة من روائع شعره عنونها بـ «دمشق العطرة والوزيرة العطار».. فكانت - كما قال - تحية الأديب للأديب، وتحية الأديب لدمشق التي أكرمت وفاده.. كتاب « من حديث الشعر» إضافة لكونه وثيقة أدبية رفيعة السمو في روحها وصوغها، هو وثيقة زمنية تقول الكثير الكثير.. وبعضه بين السطور.. www.facebook.com/saad.alkassem
|