و فصّلوا لحفاً قصيرة لتمتد على قدها أرجلهم ليس لقصرها و لكن لضيق طارئ ، و لأنهم غير محظوظين مادياً و لم يرثوا من السلف غير الفقر ميراثاً يورثونه للخلف .
و مع ذلك تم التأقلم بحنكة مواطن خبر الفقر و دهاليزه و عرف كيف يقهر تداعياته ، و كان دحر الجوع أولوية و إعلان الانتصار عليه بالنزر اليسير بطولة ، فالبطاطا مثلاً كانت ضيفة دائمة مرحب بها مسلوقة أو مقلية إلى جانب العدس كشوربة ، أما الفلافل فكانت تدعم المعدة صباحاً و مساء برفقة الفول و الفتات كوليمة لأيام العطلات دون أن يرف للجيب جفن معلنة الإفلاس ، و كمناسبة شهرية عزيزة القدوم كان الفقير يستضيف اللحم أحمره و أبيضه على مائدته كضيف شرف نكاية بالفقر و تحد لآكليه ممن أنعم الله عليه بوفير المال .
أما بعد ارتفاع موجات الغلاء بمد لم يعد يعرف جزراً ملحقاً الدمار و الخراب بجيوب العامة من الشعب ، تغيرت الحسابات و ما كان متاحاً تعزز و تمنع و تبغدد و بات بعيد المنال عن أيدي مخضرمي الفقراء و من تبعهم من حديثي الفقر بعد صولات تجار الأزمة و تآمر الدولار .
نعم لقد خوت الموائد حتى من أدنى مخصصات الكائن البشري من سعرات حرارية ، و لم يعد مجدياً ابتياع الحبة و الأوقية من خضار و فواكه بأسعار كاوية ، حتى الخس و البقدونس نسيا أنهما من فصيلة الحشائش و ترفعا واعلنا التمرد و العصيان ، و لأن اللحم كاد يقارب غرام الذهب سعراً ، فقد قرر فقراؤنا مرغمين أن يجعلوه من ذكريات أيام زمان .. و لا أدري ما سينضم إليه في صور مأكولاتنا التذكارية !!