تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


في رحيل الفنان غسان السباعي..كـــان صريحـــاً في توضيـــح مشـــاعر اليـــأس والقلــــق

ثقافة
الأحد 1-3-2015
 أديب مخزوم

فجع الوسط التشكيلي والثقافي، منذ أيام، برحيل الفنان التشكيلي الكبير غسان السباعي، أحد أبرز أعمدة ورواد الحداثة الفنية التشكيلية السورية والعربية، وهو من مواليد مدينة حمص عام 1939،

درس الفن في الاسكندرية وباريس، وبدأ كمجمل الفنانين بصياغة واقعية دقيقة، ثم ما لبث أن تحول بعد مرحلة دراسته الأكاديمية، نحو إيقاع تكويني وتلويني حديث، يميل نحو المزيد من الإحساس المتتابع بركائز التكوين الهندسي المتماسك والضاغط على الأشكال الإنسانية، بحيث تبدو وكأنها معلبة، حتى أنه أطلق على إحدى لوحاته عنوان التعليب، كل ذلك في خطوات تدعيم ركائز الموضوعات السياسية والاجتماعية، التي كانت تظهر في لوحاته كتداعيات مشبعة بالقلق والحزن والتوتر واليأس والقتامة.‏‏

تكعيب وتعليب‏‏

واهتم منذ بداية انطلاقته الفنية في نهاية الستينات بتبسيط الأشكال الإنسانية والحيوانية والطبيعية، ضمن رؤية فنية حديثة دمجت في مراحل لاحقة ما بين الاتجاهات التعبيرية والرمزية والتكعيبية.‏‏

وكان يكثف مقدرته في التعبير عن قلق حياتنا المعاصرة، حين يوصل شخوص لوحاته إلى إشارات الطرق المسدودة، فالأشكال الإنسانية (الرأس والأطراف بشكل خاص) تبدو في معظم لوحاته معلبة ضمن تكوينات هندسية متماسكة، وكانت تدخل في سياق تجاربه المتواصلة كعناصر أساسية في التشكيل والتلوين. هكذا كان يكثف مقدرته في التعبير عن قلق حياتنا الراهنة، ويعمل على بلورة نضوج الفكرة الواحدة، التي تتمحور حولها لوحاته، مستفيداً من جوهر معطيات التجربة التي تدمج بين الرمز والمناخ التعبيري، الذي يظهر فيه بشكل دائم هاجس إبراز الأشكال الإنسانية والرموز الحيوانية وعناصرالطبيعة، ضمن رؤية فنية مميزة وخاصة يعرف من خلالها كيف يستفيد من الاطلاع على تجارب الفنون العالمية الحديثة عبر مقدرته في تجسيد العناصر والرموز ومعالجة التكاوين الهندسية وإبراز طبقات اللون واللمسات العفوية المتحررة والملامس الناعمة والخشنة لسطوح الألوان.‏‏

ومن أجل ذلك لا يمكن استشفاف جمالية لوحات غسان السباعي بمعزل عن اتجاهات الحداثة الفنية السائدة في عواصم الفن الكبرى، فهو من الفنانين السوريين الطليعيين الذين كانوا يبحثون عن لغة تشكيلية جديدة، تتناسب مع الطروحات الرامية إلى تحسس مفهوم تبسيط الأشكال وتوليفها أو تقديمها بطريقة جديدة مغايرة وخاصة، فالأشكال نراها تطل في لوحاته كتداعيات لرؤى رمزية تعيد الاعتبار إلى علاقة الإنسان بذاته، عبر خطة فنية تعتمد بالدرجة الأولى على حساسية العين وخبرتها في التماس موسيقا اللوحة وما تشغله من عناصروتكوينات وخطوط.‏‏

ولوحاته لاتعكس فقط أحزان وأهوال حياتنا المعاصرة، وإنما أيضاً علاقة العين بالمساحة وبالتكوين العام للوحة، فالمساحات المتجاورة بجانب بعضها البعض، والتي تبرز من خلالها الأشكال الإنسانية والرموز المختلفة من ثور وطير وسمكة وعنصر طبيعي، تستفيد في إيقاعاتها من حركة الفنون الحديثة التي تعبر في بعض أوجهها عن دينامية العودة إلى الهندسة المعمارية المتينة وإلى الوحدة التي تبحث عن حركة بنائية للأشكال باستخدام الكتل اللونية والمكعبات والتكاوين المتجاورة، التي تتولد من حركة الدوائر وأنصاف الدوائر والخطوط المستقيمة والتكوينات الحادة، كل ذلك يشكل منطلقاً لفهم بعض الإيقاعات التشكيلية الحديثة المعاصرة.‏‏

والصرخات الإنسانية التي يحاول من خلالها إعادة توازن الإيقاعات التشكيلية الخاصة التي اكتشفها خلال مسيرته الإبداعية، لا تقع في ظلام اليأس، دائماً تمنحنا أكثر من إشارة تفاؤل في اللوحة الواحدة، من خلال التركيز على بعض الرموز «طفل، غصن أخضر، حمامة، حصان وغيرها».‏‏

استشراف الآتي‏‏

وفي حوار أجريته مع الراحل الكبير غسان السباعي منذ سنوات قال: إن اضطراب عالمنا الراهن بصراعاته الدموية والفكرية والسياسية والاجتماعية، أثر بصورة مباشرة وجوهرية على تكاوين لوحاته.. وأضاف لقد حاولت التعبير فنياً عن هذا العالم المتوتر، من خلال الإنسان المقطع والمعلب، ومن هنا أدخلت بعض الرموز «مثل السمكة» التي هي رمز للحياة، حيث بدأت الحياة بالماء بالمعنى الأدبي، لكن في لوحاتي وضعت السمكة خارج الماء، وهذا يعني وجود شيء غير طبيعي، والحصان كان رمزاً للجمال والجموح، والنبات كان رمزاً لعودة الحياة، فعندما نوجز الربيع ضمن الدمار، وفي وسط الأشياء المقطعة فهذا يعني عودة الحياة للحياة والجمال.‏‏

وعن النواحي الجمالية قال: كانت محاولة لإيجاد توازنات منطقية بين الجمال والبشاعة، ولقد كانت المرأة على مر العصور القديمة رمزاً للحياة والخصب والولادة الجديدة، وفي جميع مراحلي الفنية كنت أبحث عن الجمال الروحي لا الشكلي، والفن هو محاولة لإعادة التوازن إلى الأشياء وهو واقع آخر نريده من أجل تخطي الصعوبات والواقع المخيف في الأزمنة الراهنة.‏‏

واستعاد غسان السباعي بعض ذكرياته عن بدايات تعلقه بالفن بقوله: بدأت في حمص في الخمسينات بتشجيع من الأستاذ صبحي شعيب وعبد الظاهر مراد وتعرفت من خلالهما على مدارس الفن الحديث (الانطباعية وما بعدها) وكانت مواضيع لوحاتي مناظر من بيئة حمص والقرى القريبة منها، ولقد كنت أحب رسم الوجوه، وأول معرض أقمته كان في سنة 1954 مع مجموعة من الفنانين (من ضمنهم غياث الأخرس وفيصل عجمي وأحمد دراق السباعي وممتاز جوخدار) وبعد نهاية مرحلة دراستي الثانوية، وكان ذلك في العام 1958، سافرت إلى مصر والتحقت بكلية الفنون الجميلة في الاسكندرية وكان من أساتذتي البارزين هناك سيف وانلي وحامد ندا وحامد عويس، ولهذا الأخير تأثيرات جوهرية على بداياتي وتوجهي العام، حيث كانت له اهتمامات في الإنسان، نفس الخط الذي سرت عليه فيما بعد.‏‏

وتابع غسان السباعي حديثه: انتقالي من حمص إلى الاسكندرية وضعني ضمن مجتمع فيه تفاعلات اجتماعية كبيرة، كما جعلني أعايش فنانين متمرسين، وكان عندي مفاهيم مغلوطة صححت وتطورت حول مضمون الفن، حيث بدأت مرحلة التصدي للقضايا الاجتماعية والسياسية، ونقل تلك المضامين إلى لغة تشكيلية بعيد عن الدلالات الأدبية.‏‏

هواجس الرسم للاطفال‏‏

ويذكر أنه تخرج عام 1964 وحاز على المركز الأول بين المتخرجين، وعاد إلى سورية وأنجز مجموعة لوحات خاصة به، ولوحات جدارية لمؤسسات عامة، وبعد ذلك حصل على إيفاد من كلية الفنون الجميلة إلى باريس لمتابعة الدراسة في البوزار، وكانت تجربة باريس مميزة، حيث استفاد من المعارض التي كان يشاهدها هناك إلى حد بعيد، ولأول مرة شاهد لوحات أصلية لكبار فناني الغرب (القدامى والمحدثين) وحصل تغيير عزز لغته التشكيلية في، رغم اتجاهه نحو التعبير المباشر عن الأحداث الجسيمة التي كانت تشهدها الساحة العربية، وأصبحت لوحاته أكثر بعداً عن اللغة التقريرية المباشرة، وبدت تجربته متفاوتة الاتجاهات، حيث ظهر فيها نوع من القلق أمام التيارات المبهرة لتأكيد الخصوصية وبرز تساؤل عن ماهية الفن، بمعنى أنه كان يبحث عن فن ملتزم بعيد عن التوجه السياسي، فالفن الذي كان يبحث عنه يمثل الديمومة البعيدة عن التقريرية المباشرة، وشيئاً فشيئاً بدأ يشعر بنوع من الاستقرار الداخلي عبر مجموعة الاختبارات والتجارب التي مررت بها.‏‏

وعن إشكالية الالتباس القائم حالياً بين عناصر التراث العربي ومعطيات الفنون الأوروبية المعاصرة قال: إذا نظرنا إلى الفن التكعيبي على سبيل المثال يمكن أن نقول إنه لم يبدا مع براك وبيكاسو وليجيه، إنني أجد جذوراً له في الفن السوري القديم والفن المصري الفرعوني، كما نجد فراغ العمل الفني في أعمال الفنان العربي القديم يقترب من سطح اللوحة (أي إلغاء البعد الثالث بالمعنى الأوروبي الحديث) وهذا الكلام يعني أن الفنان الشرقي القديم سبق فناني الغرب بقرون، في تكريس أغلب المفاهيم الفنية الحديثة التي يروج لها الإعلام الغربي ويعتبرها من اكتشافات فنانيه المعاصرين.‏‏

وبالنسبة لي عندما أبدأ في لوحة، لا أضع أية تصورات مسبقة ولو شاهدت على سبيل المثال وجهاً مصرياً قديماً، أرى فيه الرؤية الميتافيزيقية الحديثة، كما أنني أرى في اللوحة المستقبلية الحديثة تأثراً واضحاً بأعمال الفنان العربي يحيى الواسطي. هكذا نجد أن الشرق كان سباقاً في اكتشاف الكثير من المفاهيم الجمالية المعروفة في الغرب حالياً، وإلا ماذا نقول عن الزخرفة العربية التجريدية التي أعطت الفنان الغربي الحديث شرعية اكتشاف التجريد الهندسي والتركيز على إبراز اللون الموحد ضمن المساحة الواحدة.‏‏

وحين سألته فيما إذا كان قد وجد خطه التصاعدي الأسلوبي بعيداً عن تأثيرات الفنون الأوروبية أم أن هناك تأثيرات متداخلة في لوحاته بين معطيات الشرق وحداثة الفنون الأوروبية أجاب: الغرب حرضني على اكتشاف ذاتي، ضمن أسلوب فني خاص، وجعلني أنظر إلى تراثي نظرة متطورة وحديثة لا نظرة متحفية أو محنطة، ومن الضروري أن نشير الى دوره الطليعي والريادي في الرسم الموجه للآطفال، وخاصة في مجلة أسامة، الى جانب دوره التعليمي كأستاذ في كلية الفنون الجميلة في دمشق.‏‏

facebook.com/adib.makhzoum‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية