وليد قارصلي.. كيمياء الحلم والحقيقة
ملحق ثقافي 2/5/2006 عامر حمد من مرَّ على منارة وليد المُضاءة حتى في النهار، لا بدَّ أنْ يرى الأمل مُضاءً بين كلماته. يرى الطين، قش القمح، سعف النخل، وزيتون الخريف، على مراكب صنعها خياله. خيال له من الخط والحجم،
والمسافة واللون المُحيِّر، ما يمكّننا أن نراه في عالم الضباب، الجميل والساحر، تتنوع فيه العذوبة والإبداع، أما تجربته فكانت ربيعاً زاخراً بالتلاوين، بالفن الذي يتواكب فيه الموضوع والأداة، الحلم والحقيقة، الروح والمادة، الخيال والكيمياء. لم يخرج فنه عن الواقع، ولم يتقزَّم فيه، لم يتخلَّ عن الطبيعة ولم يجترَّها، إنما هو فن يتنزَّه بين هذا وذاك، حاملاً صبوة الفنان وصباباته، للعميق العميق من تلاوين الحياة ورعشاتها التي لا تتجلَّى دوماً. كما عبر عن ذلك صديقه الدكتور محمود شاهين. أكَّد وليد مرة أنَّ دراسة أعماله الفنية لن تكون ناجحة أو مُلِمَّة بها بشكل صحيح وسليم إلاَّ إذا تمَّتْ بعد وفاته، أي بعد أن ينتهي من العمل، وهذا الأمر ما كان له أن يتم إلاَّ إذا انتهت الحياة في جسده، لأنَّ الفن وببساطة مظهر من مظاهر حياته، كان عنده على الدوام ما يريد أن يقوله، ومشاريع كثيرة مؤجلة،
تنبت بشكل حثيث في غابة فكره ومخزونه البصري والفكري الكبير. عظمة الجمال لديه في التنوّع الواسع فهو كلية صعبة المنال، لذا يحهد الإنسان نفسه في البحث عن جوهر الجزء، بين نقطتين من وبينهما الزمان. كان يُجهد نفسه ويحثُّ خياله إلى متعة التسوّق في عالمٍ مبنيّ على الافتراض، يُحلّل.. يُركّب.. يصنع دُماه بيديه طائراً.. شجرة زرقاء وبيتاً مُنار.s هو ما ابتعد يوماً عن ما صنعه ذات يوم ليقصَّ بصمته رواية الأحزان عن جغرافيا بعيدة، ليزرع نخلة جلبها من تدمر ليضعها حِرزاً وظلاً تحت الوسادة.. من يُشاهد لوحة أنجزها وليد قارصلي لابدَّ أن يعيش معه متعة الاكتشاف بين ثنايا التقنية وألوانه الزرقاء، زيارة الدهشة الأولى، لمرسمه الهادئ يُعطي للنفس مُسوِّغاً للاستمرار بأنَّ لحظات الحياة يُدهشها الخيال. لأنَّه هو الوليد في هذا الزمن العاقر. وليس صدفة أن يرحل ومعرضه الاستعادي مستمر في صالة المركز الثقافي الروسي، لأنَّ السفينة إذا غرقت تبقى أشرعتها ملوحة في الأفق ومناراتها وضّاءة لتهدي الضالين سبيلهم. أمام لوحته كنا نقف خاشعين وكأننا في حضرة نشيد صوفي حين نراه يُعمِّرُ حارات دمشق بنور فريد. ليس غروباً، ولا شروقاً، لا هو بالصباح أو المساء، إنه نور الرحمة والشجن. ليلته معبأة بنشوة رومانسية تفوح منها حكايات البيوت وهمسات المحبين وراء شبابيكها المضيئة في الزرقة الداكنة التي تَهِب المشهد أسرار الغموض وسحره. على نوله كان يحاول نسج الكلام عن حالة مغرقة في الظلام، وفي باله وردة تستطيع الكلام، غروبٌ برتقالي، أزرق يحمل لهيباً جميلاً يضمّد به حالتنا التي لا تسرّ. يخرج النخلة من جدار سميك يدفئ به ضلوعنا الباردة، يلاعب غيمة تحاذي أصابعه. كان من مطرحه الصغير يملك فضاءً أوسع من فضاء الطائر، ينتشل بفعل تلاحمه المطلق مع sالفكرة، تلك النُتف الصغيرة جداً، والصافية جداً، ليصيِّرها شيئاً محسوساً، وهو في عبوره المسافة الجواَّنيّة للوحة يتجه بنا صوب عالم جديد، دون أن يقطع صلاته بوَسَطه الأصلي، ومحيطه السابق ووشائجه العميقة، وفي كل مرة يخلق فضاءً شعرياً مرهفاً يواصل به ضمان هذه الاستمرارية بإيكولوجياه المفرطة في السرية والدهشة. مانحاً أعيننا الكسولة ذلك الفضاء المُبهج الذي يُجاوز به الزمن المُجزَّأ نحو خلق الطائر الذي لا يفلت من قدره الأرضي والسماوي معاً.بأجنحة قوية وهادئة. نساء وليد، نقيَّات من كل دنس، يتبعْنَ مصيرهنَّ الخاص، الخاص إلى حدِّ الملل، هنَّ أكثر كثافة من كل جبل، البراءة عُمْرهنَّ، يغامرنَ بحظوظهنَّ قرب الرجال، ويصعدْنَ إلى الحلم في الليل نفسه مع الرجال.. يجتزن مدار الحلم الأكبر الذي رأيننا نولد فيه، تاركاتنا لحكاياتنا حكايات المدن، صمتهنَّ معرفة، وفضاءهنَّ الصمت.
|