غريــــبتان
ملحق ثقافي 2/5/2006 رواد ابراهـــــــــيم شغلنا أول مقعدين في البولمان.احتلت هي المقعد الذي يحازي النافذة، أي باستطاعتها أن ترى البحر أفضل مما أراه أنا، في الواقع أزعجني اختيارها لهذا المقعد، لكنها سبقتني في الصعود إلى الباص،
إذاً علي قبول الأمر ، هكذا فكرت.كنا قريبتين جدا، لم نتفوه بكلمة من اللاذقية حتى طرطوس، محطة البولمان الأولى، نزلت الفتاة وتركت عطرها الرخيص يعبق في المكان. كنت سعيدة بمغادرتها، أخذت المكان قرب النافذة. صعدت أخرى، جلست بقربي تماما، حين استقرت في جلستها أخذت جهازها الخليوي، وأجرت مكالمة لا أعرف مدتها حيث لم أسمع أي كلمة أو على الأصح لم أكن أصغي، شغلتني فكرة، ألحت علي، الغياب، غيابنا عمن نحب وغيابهم عنا، غيابنا عن المكان حين نألفه، والغياب لايقاس بمدة، نشعر به إن كان للحظات أو لأيام أو أكثر، يعذبنا، لكنه يمدنا بشوق ممتع للحظة قادمة. يفرمل السائق لسبب ما، يسقط شيء على الأرض يخصني، تتناوله الفتاة تعيده إلى مكانه، أقول شكرا، بقيت صامتة. غريبتان،لانتحدث مع بعض، فكرت: كأن الحديث مع الغرباء فيه شيء من التنازل، فمن منا ستبدأ الحديث؟ وبما نتحدث؟ الطريق طويل إلى دمشق. قرأت لبعض الوقت، شعرت بدوار خفيف، اتخذت وضعية استرخاء. غريبتان في هذا المكان المتنقل، ربما نصبح صديقتين لو تحدثنا مع بعض، الوقت لايكفي ؟ ما أهمية الوقت؟ عليّ أن أكتشف أو تكتشف شبهاً بيننا، أو نكتشف اختلافاً يكون سبباً لتعارف طويل. لماذا لا ألفت نظرها إلى جمال الأزرق الممتد؟ أو إلى الأخضر المجاور؟ إلى تلك الشجرة الوحيدة هناك. فأفتح معها حديثا، ربما ستعتبر الأمر سخيفاً! أو ربما يعجبها. عطرها كان ناعما، يشبه رائحة الصنوبر ، إذن هي تحب الطبيعة. أحد ما أهداها العطر، وعلاقتها في الطبيعة عادية لايعنيها من جمالها شيء، حديثي سيأتي مملا. أسألها عن اسمها، عن علمها عن عمرها، أو عن اتجاهه. أمور لاتخصني وقد لاتريحها.أعود للقراءة،أقرأ بضع صفحات يعودني الدوار. كان السائق يشرب الشاي الساخن، ومع ذلك يمشي بسرعة كبيرة، يتحدث مع المعاون، لكنه في الواقع ينظر مباشرة إلى الأمام لايلتفت يمنة أو يسرى، يتركه المعاون دقائق ليوزع الماء على الركاب من الإبريق البلاستيكي الأصفر الذي لاأستسيغ الشرب منه حتى لو كنت سأموت من العطش. أثناء جولته تزداد سرعة الباص. أرخي الستائر وألغي كل المؤثرات الخارجية وأبقى مع نفسي. على يمين الطريق يمتد البحر، أرفع الستائر، ثم أسدلها، البحر يظهر ويغيب، أراقبه بلهفة المغادر، المودع، نتجاوز طرطوس وبانياس ويختفي البحر نهائياً،أترك الستائر مسدلة، أسترخي، أتذكر، استحضر مساءً ممتعاً أغيب معه، يجتاحني اشتياق عارم، تعود فكرة الغياب،أكثر حضوراً، ذاك المساء وهذا الغياب، الغياب حالة عبثية، لكنها حين تقع نشعر بأهميتها. الغياب يعطي الحضور أهمية خاصة، في الغياب يحضر الحنين والشوق إلى اللقاء، نكتشف فيه لذة الألم، تفوز الذاكرة، تستحضر روائح الكلام ولون الوقت، تقيس سرعته، حين يصبح زمنا لاقياس له. تتحرك جارتي في المقعد، أتذكر وجودها.مازال لدينا متسع من الفضول لنتحدث، أنظر نحوها، لكنها لا تراني. أتردد في المبادرة، لعلها تفضل أن تبقى صامتة، تفكر بأشياء لاتتيح زحمة الحياة التفكير بها، ربما تكون منسجمة مع فكرة ما، أكيد سأزعجها إن قطعت سلسلة أفكارها، أعود إلى القراءة، أقرأ مقطعاً من قصيدة: تنهض من نومها. تمشي على البلاط حافية فينعشها صوت البرودة في القدمين، تلقي على وجهها نظرة في المرايا أحد ما يبتسم لها. أحد ما يقول لها: أنت جميلة. لكنها تغمض عينيها على ماوراء جمالها، وتمضي إلى روح المكان البعيد وتختفي.. إنها الذكريات.. أعود إلى فكرتي الأولى، أبحث عن تلك الرابطة القوية بين الذكريات والغياب. الغياب يصنع الوحدة والوحدة تصنع الذكريات. فجأة يهدأ كل شيء، يختفي صوت التلفزيون الذي لم أكن أسمعه أبداً، ويعلن المعاون وصولنا إلى دمشق. تقف الفتاة وتسير نحو الباب، أتبعها، ننزل، نتوجه كلانا إلى (باكاج الأمتعة) تتناول حقيبتها تنظر نحوي تبتسم وتغادر. وأنا. كنت في تلك اللحظة على أشد يقين ممكن بأن الغياب أوشك على نهايته... ليغدو حضورا.. حضوره هانحن نتنفس مرة أخرى، هواء مدينة واحدة! >>> القصيدة مقطع من ديوان الشاعر عادل محمود: حزن معصوم عن الخطأ.
|