تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تداعياتُنا و«درويش»..عـــن المنفـــى والغربـــــة والحنيـــــن

ثقافة
الأحد 20 -9-2015
 هفاف ميهوب

(ليس المنفى دائماً طريقاً أو شعراً. إنه انسداد الأفق بالضباب الكثيف, فلا شيء يبشِّر بأن الأمل ليس داءً لن نشفى منه. نحنُ نولدُ في منفى, ويولد فينا المنفى, ولايُعزِّينا أن يقال, بأن أرض البشر كلها منفى, لكي نضع منفانا في مقولة أدبية..

للمنفى, أسماء كثيرة ووجهان. داخلي, وهو غربة المرء عن مجتمعه وثقافته, وتأمل عميق في الذات, بسبب اختلاف منظوره ومعنى وجوده, عن منظور ومعنى وجود الآخرين.. وخارجي,‏

وهو انفصال المرء عن مكانه الأول وجغرافيته العاطفية. انقطاعٌ حاد في السيرة, وشرخ عميق في الإيقاع, وفي كل مايجعل المنفي يعيش بين «هنا» و«هناك»، يرى أرضه البعيدة هي الصلبة, وأرض الآخرين غريبة ورخوة).‏‏

هذا بعضُ ماقاله «محمود درويش» عن المنفى، هذا بعضُ ماقاله هذا الشاعر المناضل شعراً, والمغترب قسراً, وبأمرِ سلطات الاحتلال التي استوطنت أرضه بعد أن اقترفت من البشاعاتِ ماأدى إلى تهجيرِ شعبه عن وطنه, وعن فضاءاته..‏‏

هذا ماقاله هذا الشاعر, أما نحن السوريين, فنقولُ عن منفى غربتنا الخارجية، الغربة التي هجرتنا إليها مصالحنا أو خوفنا أو معتقداتنا أو خيانتنا أو حتى أفكارنا الجاهلية: «باختيارنا نفينا حياتنا.. هجرناها.. غربناها.. شظيناها.. نفيناها بعيداً عن معناها. هجرناها, فانفصلت عن هواها..شظيناها, فتشرذم حلمها.. أمنها.. عشقها وإلى أن ناءَت الشكوى بشكواها..‏‏

نقول أيضاً, وعن غربتنا الداخلية, لقد نُفينا إليها بأمرِ أحفاد الظلم والظلام. الحقد والإجرام والضلال. الشاهرين سواطير الباطل جهلاً بقدسية الوطن والإنسان والدين الحلال»..‏‏

إنها تداعيات الغربة والمنفى والحنين.. تداعياتنا مثلما تداعياتُ «درويش» الذي أشعره منفاه الخارجي, بانفصاله عن فضاءِ مرجعيته، عن مكانه الأول وجغرافيته, وعن كل ماجعلهُ يأبى إلا أن تكون آخر نصوصه, مستمدة من أحاسيسه اللامنتمية إلا إلى منفاه الاختياري. الشعر الذي وإن أطلقه منتمياً إلى أشهر الشعراء المناضلين, إلا أنه أبداً, لم يخلّصه من شعوره بأنه منفيٌّ وبأن المنفى:‏‏

«انقطاع الإنسان عن كلِّ عناصر تكوينه. الطفولة والمشاهد الطبيعية. الذاكرة والذكريات ومرجعية اللغة.. خصوصيته وهويته والعلاقات.. وشرخ في شكلِ الصلاة التي تعبر عن الحنين إلى الوطن, وفي كل مايجعل المنفي لاينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولى. ذاكرته التي تصبح بلاداً وهوية, والتي تتحول محتوياتاتها إلى معبودات, وهكذا يُظهر المنفى جماليات بلاده, ويُضفي عليها صفات الفردوس المفقود, وحين ينظر إلى التاريخ بغضب لايتساءل: هل أنا ابن التاريخ أم ضحيّته فقط؟».‏‏

نعم, هي تداعيات «درويش» وتداعياتنا.. تداعياتنا التي باتت مسكونة بالقهر والنزيف والتيه والموت والوجع.‏‏

تداعيات غربتنا, إلا عن الويل الذي داهمنا ذات استهدافٍ لسوريتنا, وأريد منه انفصالنا إلا عن ذواتنا وآهاتنا.. إلا عن الويل الذي فصلَ لُحمتنا بسواطيرِ الخيانة والقتل وسوى ذلك مما أدمى فينا الروح بعد أن فصلَ الوعي عن العقل.‏‏

هكذا أرى الاغتراب والمنفى، اغترابنا عن ذاتنا وهوياتنا وحياتنا وذكرياتنا, ومنفانا الذي اعتقل فينا إلا وطن, هو الحياة التي دثَّرتنا بالكبرياء فدثرناها بدمائنا وأرواحنا.‏‏

إنها ليست فقط تداعيات الاغتراب والمنفى, بل و آلامنا التي نزفتنا ولكن, بعد أن كبر الوعي فينا حباً بالوطن, وبعد أن استوطنتنا كل الوباءات التي بثَّها أهل الأحقاد والفتن.‏‏

أيضاً, آلام «درويش» الآلام التي رافقتهُ مُذ غادر وطنه, ودون أن يتحرر منها, وبما أكده قوله في نصوصه الأخيرة:‏‏

«لم تكن المسافة بين المنفى الداخلي والخارجي مرئية تماماً. في المنفى الخارجي, أدركتُ كم أنا قريب من البعيد. كم أن «هنا» هي «هناك» وكم أن «هناك» هي «هنا».. لم أعرف أيُّنا هو المهاجر, نحن أم الوطن, لأن الوطن فينا بتفاصيل مشهده الطبيعي, وتتطور صورته, بمفهومٍ نقيضهُ المنفى».‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية