والوضع الدولي المتعاطف من أجل إحكام حصارها على مدينة القدس ونهب ما تريد من الأراضي الفلسطينية دون الاهتمام بالهيئات الدولية ولابقراراتها.
وقد تابعنا في الأيام القليلة الماضية مشاهد هذه الأعمال في القدس المعزولة عن بقية الأراضي المحتلة عام 1967 بجدار يحيط بها من كل جانب وكيف حاولت جماعات متطرفة اقتحام المسجد لإقامة صلوات الفصح اليهودي في ساحاته في مسيرة «حملة شد الظهر» وفق مؤامرة الهدم والتخطيط لبناء الهيكل المزعوم، كما تابعنا الإجراءات الصهيونية المتسارعة لمحو الهوية العربية للقدس الشريف، وشملت الإنذارات الظالمة لسكان الأحياء العربية تمهيداً لهدم منازلها وإقامة مستعمرات جديدة تهود المدينة بكاملها، بعد أن عملت معاول الهدم على تشويه صورتها التاريخية ومعانيها الإنسانية بالتعايش بين الأديان والتآخي بين المسلمين والمسيحيين أصحاب الحق التاريخي.
تعد القدس أحد أهم وأصعب قضايا مفاوضات التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي الذي من شأنه أن يسفر عن إقامة دولتين وإذا ما رصدنا تطور الخطاب الإسرائيلي بخصوص القدس باعتبارها أولى خطوات تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي التي وضعت ملف القدس على مائدة المفاوضات نجد أنه في الفترة اللاحقة لسقوط القدس الشرقية عام 1967 وظف رؤساء وزراء إسرائيل القدس في تصريحاتهم لإلهاب المشاعر الدينية لليهود، وهذا الاستخدام الديني للقدس في الخطاب الإسرائيلي استدعى وبشكل كبير الأساطير والقصص التي عاش عليها اليهود لقرون في الشتات، لذا يلاحظ أنه في الفترة التالية لسقوط القدس الشرقية عام 1967 تزايدت لهجة التعنت بشأن القدس متجاهلة ومتحدية قرارات مجلس الأمن وأصوات الاحتجاجات العربية بشأن استمرار الاستيطان في المدينة والتمادي في الحفريات تحت المسجد الأقصى، بل ومحاولة إحراقه عام 1969، وظل هذا هو الموقف كما هو لرؤساء وزراء إسرائيل وذلك حتى استقالة غولدامائير عام 1974 نتيجة للأزمة السياسية العنيفة التي أطاحت بإسرائيل عقب هزيمة حرب تشرين 1973.
ومع هزيمة إسرائيل في حرب تشرين تبددت نشوة نصرها في 1967 وساد لدى الإسرائيليين الشعور أن النصر في حرب 1967 لم يكن النهاية فالعرب ما زالوا قادرين على الحرب والمقاومة ويمكن بسهولة رصد حالة الارتباك في خطاب رؤساء وزراء إسرائيل ،حيث اتجه الخطاب الرسمي الإسرائيلي في ذلك الوقت إلى الداخل بحثاً عن مواضيع الخطأ ومكامن التقصير التي أدت إلى الهزيمة، إلا أن موضع القدس في هذا الخطاب لم يختلف كثيراً فأتت تصريحات رابين 1974-1977 مؤكدة تمسك إسرائيل بالقدس وعدم استعدادها لفقدها كما فقدت سيناء، فالقدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة ودأب رابين على الترويج لمشروعه القدس الكبرى في محاولة فاشلة لعلاج ما سببته حرب تشرين من طعنات غائرة في القلب الإسرائيلي.
ولايجب أن يخفى هنا تصاعد التوظيف الديني للقدس في الخطاب الإسرائيلي كان يأتي في سياق محاولة محدودة النجاح لبث الاطمئنان في صفوف الرأي العام الذي شعر جزء منه بالهلع لفكرة التفاوض والتنازل عن الأرض، وكان التعنت بشأن القدس في الفترات التالية وسيلة لكي تقول إسرائيل لشعبها ولشعوب الأرض، إنها ما زالت قوية، وقد لجأت إسرائيل إلى ذات هذا التوظيف في الثمانينات مع حرب لبنان، لامتصاص هلع المجتمع الإسرائيلي بين العمل والليكود لأول مرة في تاريخ إسرائيل عام 1958، استمرت المزايدة على شعار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل والتي أصبحت رمزاً لقوة إسرائيل، وفي مدريد 1991 ووسط بدايات التفاؤل العالمي بإمكانية البدء في كسر الجمود أفزع شامير صقر إسرائيل حمائم مدريد بتصريحاته أمام الوفود العربية أن القدس هي العاصمة الموحدة والأبدية لدولة إسرائيل وحتى مع قدوم رابين إلى الحكم وبدء مفاوضات أوسلو في عهده، فإن أفضل ما حدث للقدس هو الموافقة المبدئية على إدراجها على مائدة المفاوضات بشرط تأجيلها إلى مفاوضات الوضع النهائي، إلا أن أول السلام هجر القدس مع الممارسات الفعلية للحكومة التي تحرشت ببيت الشرق، واحتفلت بالألفية الثالثة لاتخاذ الملك داود القدس عاصمة لشعب إسرائيل علاوة على تصريحات رابين الواضحة بأن القدس هي العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل وأن التفاوض حولها لا يعني إمكانية التنازل عنها، إلا أن كلمات رابين لم تفلح في امتصاص الغضب الإسرائيلي والنار التي أشعلها اليمين المعارض فتصاعدت الآراء تنتقد الحكومة وتعد مجرد الموافقة على إدراج القدس على ساحة التفاوض تفريطاً لايستهان به في القدس عاصمة لإسرائيل وهكذا، عندما يحين الحوار عن القدس في إسرائيل فلا فرق بين حمائم وصقور أو حركات سلام وحركات صهيونية لا فرق ما بين الليكود والعمل، فالكل سواء، والقدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة تحت السيادة الإسرائيلية، إلا أن الحقيقة التي تجب الإشارة إليها هي أن قضية القدس نجحت في كشف تناقضات النظام الإسرائيلي فيما يتعلق بالتسوية السلمية، ففي حين يدّعي هذا النظام رغبته في السلام ويعترف أن القدس هي أصعب قضايا الحوار حول السلام فإنه مع ذلك لايريد التفريط فيها أو حتى التفاوض حولها، يريد سلاماً دون تنازلات.
وما جعل القدس بهذه المكانة في الخطاب الإسرائيلي هو تحوله إلى توجه سياسي واضح يسعى إلى فرض الأمر الواقع مستنداً إلى سياسة إعلامية قوية تلفت أنظار العالم لهذا الأمر الواقع وتحاول تبريره وتقنينه واختلاق شرعيته، وما لم يواجه هذا التكتيك الإسرائيلي بتكتيك عربي على نفس المستوى إن لم يكن يفوقه، لجذب الاهتمام الاقليمي والعالمي إلى ما يحدث في القدس، بحيث يكون الخطاب العربي المتمسك بالقدس العربية المدافع بشراسة عن عروبتها هو الدافع لجعل القدس في بؤرة الاهتمام العالمي، فقد يصبح الحديث عن حقوق عربية في القدس أمراً منسياً وخاصة أن تأجيل التفاوض حول القدس إلى مرحلة الوضع النهائي قد أعطى لإسرائيل فرصة ثمينة للاستمرار في تغيير معالم المدينة وتهويدها والإخلال بالتركيب السكاني فيها.