فإذا حاولنا تجاهل الماضي أو التعتيم عليه هل سيكون الحاضر أو المستقبل أشد إشراقاً؟! وهذا مالم تؤكده الهيمنة الأميركية التي تبث للعالم منذ سنوات اعتلال حاضرها بما يجبرنا للعودة إلى جذورها لمعرفة السبب فيما أنتجته من تشوهات، وعلى كل صعد الحياة الأخلاقية والسياسية.
البداية كانت في 12 أيلول- 1492 عندما رست سفن (كريستوفر كولومبوس) الشراعية الثلاث على ساحل جزيرة من جزر الباهاما.. تلك السفن التي سماها (سان سلفادور)، والتي انطلق فيها مع جماعته في رحلة استكشافية بهدف الحصول على الذهب.
ولكن، يبدو أن (كولومبوس) اكتشف الأرض الجديدة لكنه لم يكتشف البشر الذين كانوا يقيمون عليها، ورأى المكان الذي أطلق عليه أميركا لكنه لم يرَ إلا أناساً عراة دون طقوس أو دين أو حضارة.
لم يكن كل هذا يعنيه، فلا تعنيه لغتهم أو إشاراتهم وحضارتهم، وفقط تهمه الأرض التي يقيمون عليها والذهب الذي يملكونه.
إذاً، إن اكتشافه هذا يتطلب منه إطلاق الأسماء على كل موقع يصادفه، وهذا مافعله وهو يضم كل جزيرة يجدها إلى التاج الإسباني غير مبالٍ بالهنود الذين يقفون وهم يراقبونه بذهول مع من معه من رجالٍ وأتباع.
وبدأت عملية المبادلة- مبادلة الدين بالمذهب حيث قام القساوسة الذي يرافقونه بتحويل الهنود المتوحشين إلى المسيحية من خلال المواعظ التي لم يفهمها أولئك الهنود الذين سيقدمون ثرواتهم رغماً عنهم (كولومبوس) كان يوزع شيئين على بحارته.. الخمر والنساء فالأوروبي يجد أن انتصاره على المرأة الهندية يعني انتصاره على الأرض.
وهكذا سيق آلاف الهنود للعمل في المناجم ولساعات طويلة باحثين عن الذهب ليقدموه خاضعين ومهزومين أمام الغزاة الذي يثير الاستغراب تفوقهم أمام أعداد الهنود الهائلة، ورماحهم وسهامهم وحيواناتهم الأقوى..
يبدو أن السبب يكمن في أن الصراع القائم بين القائد الإسباني (كورتيس) وملك الهنود (موكيتزوما) جعل الأخير يعتقد أن مايحصل هو غضب الآلهة، التي تريد الانتقام منه ومن قومه.
نعم، لقد اعتقد الهنود أن البحر هو نهاية العالم، لذلك صاح أحدهم: «إنهم آلهة من أين لهم أن يمكن أن يجيئوا إن لم يكن من السماء؟! لقد أرسلهم إله.. ومعركتنا خاسرة معهم».
إن هذه الأسطورة جعلت الهنود يبجلون الرجل الأبيض بل ويضعون ذهبهم وتماثيلهم التي هي آلهتهم، تحت أقدام الغزاة، الذين كانوا أشد طمعاً وهم يصهرون تماثيل الآلهة الذهبية ليصنعوا منها نعالاً لجيادهم.
وبدأت البلايا.. وكانت المجازر الرهيبة والمذابح التي ارتكبها الإسبان بحق الهنود لاتمثل إلا الجشع والرغبة في الشراء ذلك أنهم وكلما دخلوا قرية يشهرون سيوفهم وينهالون كالجزارين يبترون أعضاء الضحايا من نساء ورجال وأطفال.. وكأنهم يجدون لذة في الوحشية والتسلط.
الجدري كان أول الأمراض التي حملها الإسبان إلى قوم لم يعرفوا علاجاً منه إلا بالموت الجماعي وأيضاً المجاعة بعد إتلاف الأراضي بما فيها، أما الأشد بلاءً فالزنوج والعبيد الذين استخدمهم الإسبان وساطة بينهم وبين الهنود الذين يضطرون لدفع الضرائب والأتاوات الضخمة أو بيع أطفالهم وتقديم أرواحهم..
كل هذا، ناهيك عمن ماتوا في مناجم الذهب لتبدأ الانقسامات والتكتلات بين الإسبان والتي لا أحد يدفع ثمن اشتعالها إلا الهنود.
لقد كان المبرر الأوروبي لعمليات الإبادة التي تمت ضد الهنود- أنهم يحاربون وحوشاً آدمية- يقدمون لآلهتهم قرابين من البشر ويأكلون لحم بعضهم البعض.
إن استرجاعنا لهذه الحقائق الفظيعة لايعني أن جميع المهاجرين كانوا من ذوي الأخلاق الرديئة والنفوس المتوحشة، فمنهم من هرب من وطنه جراء الاضطهاد الديني أو السياسي ومنهم شرائح من محبي التغيير وعشاق المغامرة وارتياد المجهول، وهناك من سعى إلى تحسين أوضاعه المعيشية، لكن يبدو أن الأصناف المنحرفة والسيئة طغت وسادت هذا العالم الجديد.
بعد كل ما أوردناه هل يمكن لأحدٍ تجاهل التاريخ، أو ليست شريعة الغاب السائدة آنذاك قد أورثت أجيالاً من الشر لتتحول الجريمة والعصابات التي تقودها إلى ابتكار وتفنن مؤطر بالوجاهة التي تنظمها هيئات وتنظيمات وقيادات خارجة على القانون والإنسانية.
لا .. ليس بإمكاننا أبداً أن نتجاهل التاريخ. وإلا وعلى رأي بعض الفلاسفة سنكون مانزال نحيا في الحاضر الكاذب الذي سنورث بعده لأجيالنا مايجعلهم لاينتمون إلى حقيقة واضحة إلا ضمن دائرة الوهم.