وفي تفاصيلها تغيب البصيرة وينبري البصر وهو كفيف ليعلن أنها لم تبدأ الآن بل بدأت منذ وقت طويل حيث ينبت الممثلون وكثير من المشاهدين البلهاء: عن جذورهم التي غروسها بأيديهم تفاؤلاً بالغد القادم وسعياً نحوه! لكن الصورة تنعكس بالمطلق وهم غفل لا تعنيهم المسرحية وممثلوها ومشاهدها والمتفرجون عليها... ولا مراميها أو ما تهدف إليه!
وحين ينبري كثير من النظّارة «المشاهدين» ليعلن سخطه على المسرحية ومضمونها: يتدخل شخوص المسرحية المتممون:
فيقف الراوي ويعلن بصوت جهوري:
إنهم يقتلون جيادهم الأصيلة ويبدلونها بالبغال! إنهم ينسون تاريخهم ويستردون أوسمة الفوارس ليقدموها للخصيان!! إنهم يسدلون الستارة على بقايا مرحلة الفروسية والنبلاء، ليعتلي المسرح جموع الكومبارس والتافهون، فيحمل الخصيان سيوف الفوارس بعد أن دفنوهم وهم أحياء.. إنهم يهيلون التراب على ذكريات المجد التي طلعوا هم أنفسهم من غمارها: مصفقين منافقين ونسوا بين عشية وضحاها أن تلك الذكريات هي التي أعطتهم معنى وجودهم واستمرارهم مرفوعي الرؤوس.
- يقول مشاهد ناصع البياض تغمره العتمة:
إنهم يقتلون الجياد الأصيلة ويدفنون آخر جموح لها وكأن بينهم وبين الماضي القريب عداوة لا حدود لها!..
بالأمس كانوا أرقاماً محدودة لاهم لها إلا التصفيق! واليوم صاروا ركائز في عالم القضاء على السمات الماضية وقلاعها التي حصنتهم دهراً، ضد أغوال المفاجآت وحمت حذرهم المذعور، وجعلت منهم كائنات لا تعبأ بالأهوال!!
إن مصيبة الكون كله بعدائهم للجياد الأصيلة: هي في شوقهم الماجن لطيّ تلك الصفحات الخالدة ودفن آخر صورة منها! وكأن الزمن ليس استمراراً لمشواره الأبدي!
- قاطعه الزمان وقال:
من صلب اللحظة الفاصلة يبزغ فجر الحقيقة، ويعيد للجوهر معناه وصولته وأصالته الخالدة، ويلقي بعباءات الجبناء فوق أكوام المهملات وفوق الذين يظلون على هامش التاريخ مهما كانت أظافرهم حادة مسنونة!
- يتعالى صوت التاريخ يصرخ من وجع ومن غرابة واستهجان:
لم أنتم ضد أنفسكم وغدكم وحياتكم التي لم تكن تعبأ بالمستحيل؟!.. لم أنتم تكرهونني إلى هذه الدرجة وعلى هذه الصورة المحزنة؟! إنني أخبئ لكم من وجع: كل سمو وتفاصيل أمسكم الذي تسعون إلى قتل كل بارقة أمل فيه! إنني أكره نفسي إذ أحتويكم، سيرةً ووجوداً، فأنتم تدرون ولا تدرون أنكم تدقون المسامير المسمومة في الصليب الذي تحملونني إياه وأطلب لكم السماح والمغفرة وفي عقولكم عن غفلة أو قصد:
تختبئ كل وحوش الدنيا، فتنهشون الجسد الذي حماكم وحصنكم، والعقل الذي جعل منكم رقماً محترماً في معادلة الوجود والكرامة.
فيالله كم أنا يائس منكم ومن حقدكم الذي لا يريم!! فبين جوانحي أعددت وخبأت لكم غداً لا تحلمون به لكنكم لا تدرون ماذا تفعلون!!
- تنسحب الوجوه الصامدة الأليفة، من عتمة المسرح وتقتحم دائرة الضوء وتعلن للملأ:
إن التاريخ لا ينسى ذاكرته ولئن كتب بعضه من وجهة نظر الحاقدين، فإن في تفاصيله ما هو أصيل وأبيض كالثلج، يزري بكل التشوهات التي يحاولون إلصاقها به، ويذرون بذورهم الحاقدة حيث تعصف بها رياح الحقيقة وتنثرها في فضاء لا نهاية له!
- وينهض من بين النظّارة «المشاهدين» بعض الذين أرادوا للمهزلة ألا تكتمل فيصرخون بصوت عالٍ:
هو الوقت والزمان سيد الأشياء الباهتة التي تمحوها دقاته وساعاته الفاصلة حيث يظل الصحيح هو الصحيح، والضوء لا يصير عتمة، والخلود لا يعني موتاً واندثاراً!!
- يصرخ من بين المشاهدين حشد كبير، وتتعالى الأصوات والخطوات لتعتلي خشبة المسرح وتصرخ معاً:
وأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها من تحت أخمصك الحشر
وتلوح فوق فضاء الخشبة خيالات أبي تمام والمتنبي وسواهما وفي الأفق صور وتلاوين للرجال الحقيقيين الذين صنعوا التاريخ وكانوا مادته التي لا تنضب!
- وتتعالى الأصوات من جديد لتقول: إن الدهر ملك العبقرية وليس ملك الجبابرة والسفاحين، وعبقرية الأمة هي جموعها الصامدة الصابرة، وقادتها الذين ما كانوا يوماً إلا جزءاً منها ومن تاريخها.
ويتعالى من أطراف القاعة صوت مجلجل يعلن أن بعض التاريخ الذي يكتب من وجهة نظر ومصالح الطغاة، هو قبل كل شيء: ملك الشعب وملك جنوده المغمورين الذين أبدعوا انتصاراته رغم أن التاريخ لم يذكر أحداً منهم بل ذكر الملوك والتيجان والبطانة المحيطة!!
- ينهض المشاهدون جميعاً مقابل الخشبة وممثليها ويعلنون بصوت واحد:
إنهم يقتلون الجياد الأصيلة فماذا تركوا للحلبات ومواقع الصراع؟ إن الغد ملك الأصائل وفرسانها ومن كان غريباً ومدسوساً يضيع بين الحوافر وتدق عنقه الركب وهي تعتلي بسيوفها ورماحها، ظهور تلك الأصائل، ومن بين سنابكها يتعالى صوت الانتصار وينتصب الفوارس في ساحاتها مثل الأطواد الشامخة.
- يسدل الستار والأصوات تردد نشيداً أبدياً يمحو كل رسوم الوافدين الحاقدين، وتبزغ فوق الجميع شمس تبدد ظلمة المكان والنشيد مستمر يصل عنان السماء.وتبدو في الأفق صور فصيحة أصيلة ترفرف فوق المكان يرافقها صوت جماعي عميق يقول:
لقد عملت بين أيديكم قدر ما سمحت به الحياة وبنيت ما بنيت كرمى لعيونكم ولهذا الوطن الغالي العزيز الصامد، فمنكم ومن إيماني: نهلت تلك القوة التي منتحتني الصبر والعناد فلم أفرط بكم، وأعليت أرضكم ووجودكم فوق كل اعتبار فلا تهنوا ولا تيئسوا فالغد والزمان ملك جموعكم الهادرة.
- تسدل الستارة وتغادر الجموع قاعة المسرح وكأن شيئاً لم يكن!! فالجياد الأصيلة مازالت تقتل، ويتصافح النظارة بعد حين وكأنهم لم يشاهدوا مسرحاً أبداً!! وتمضي الحياة العربية باطمئنان!!