تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هديـة بلون الـروح

رسم بالكلمات
الأثنين 4-5-2009
سريعة حديد

ما هذه الرائحة الطيبة التي أيقظتني فجأة عبر وهج الصباح؟ لقد حملتني نحو مساحات شاسعة من أرض جنين، الرائحة تزداد قوة وأنا أخطو باتجاه شرفة المنزل الشرقية،

أدور بخطا بطيئة أصل الشرفة الشمالية أتنسم الهواء بتأن مخافة أن تضيع منى أنفاس الرائحة وسط هذه الملاءة الناعمة من تداخل أشعة الشمس ومزق الضباب.‏

رائحة الحليب الشائط كانت تهب من جهة الجنوب لتحملني إلى قلب جنين نعم إنها أنفاسها رائحة نارها ورغوة حليبها الفائر.‏

وقفت أعب الرائحة طفلاً أعيد إلى صدر أمه, تغزو عيناي بقايا الضباب تبحثان عن المنبع بلهفة وقلبي يدعو بالسلامة لتلك اليدين اللتين أججتا النار ولتلك الهفوة من النسيان، رنين هاتفي الخلوي حملني إلى الداخل بسرعة نعم صديقي كأنك وموعد اليوم مع رائحة فلسطين، حسن أنا في انتظارك وسأفكر بماهية الهدية كما تريد وداعاً هيا ياصاحبي، امزج الخليط جيداً مابك؟ ضع المزيد لابد أن أبدو بمنظر لائق أمام صديقي الحبيب، هذا يكفي حركه جيداً... رائع باشر العمل الآن، غريب لم يتلون شيء! هل العلبة فاسدة؟ قلت لي إنها من نوع مستورد ممتاز، ولكن لماذا لم يلتقط شعري الصبغة أبداً؟! جوابك جميل نعم يبدو أنه يحب المحافظة على تضاريسه التي لونتها لغتها الخاصة بل قل: مهما كانت صباغهم جيدة فليس بمقدورها إلغاء أصولنا. أتعلم ياصاحبي وددت من صبغ شعري ليس طمعاً بالمباهاة بل ليعود اللون بي إلى سنوات شبابي، فيحميني من سوداوية الهواجس، كنت كلما نظرت عبر المرآة تلتمع الشعرات البيض، أشعر بالخوف والاضطراب لأن الشيب يدنيني من القبر فقد لا تكتحل عيناي برؤية الوطن وفرحة استقلاله عدت إلى قوقعة أفكاري ، سأحاول الخروج من عتمتها لم أستطع، إني أدور في دوامة تسحبني نحو دهاليز متشعبة ، شعرت بالضيق راحت أصابعي تفك أزرار قميصي بسرعة شيء ما يضغط على أنفاسي.‏

ما بك يا صاحبي ؟ لم شهقت متعجباً؟ لأول مرة ترى هذا الرسم؟ آه لو تعلم عندما راحت أمي تنقشه على صدري بمجموعة الإبر كانت دموعها تمتزج بخليط الدم النازف من مساماتي وأنا أراقب توهج وجنتيها وبريق عينيها فكنت أشعر وكأنها تدقني بأسدية الأزاهير. مسح الصاحب خديه الغارقتين بالانفعال متابعاً حديثي بشغف، صدقني كانت كلما أنجزت خطاً من خريطة فلسطين، أشعر وكأنه نال استقلاله وأصبح ملكاً لقلبي.‏

عندما أكملت نقش الخريطة نظرت إلى الإبر كانت ممتلئة بالدماء والرماد وصدري قد توهج بوشم فريد من نوعه، فحملتني طيور الفرح إلى سماء ما عبرتها أبداً أنظر إلى الساعة؟ تأخرت أليس كذلك؟‏

من الممكن إنك شعرت بالملل لابأس بإمكانك الانصراف فجأة تواثبت في رأسي الأفكار رحت أهيم في تخمين الهدية أهي زجاجة عطر من ياسمين حارتي؟ أم شال صوفي نسجته إحدى جاراتنا، وقد علقت به رائحة بيارت الليمون والبرتقال؟ ربما تكون خلية عسل، الأمر مشوق للغاية بل أكثر من مشوق خرجت إلى ساحة الدار أقطع الدقائق بنفاد صبر، عندما اهتزت أضلاع الباب الصفيح مع نبرة مرفقة من صوت صاحبي انفتحت أمام ناظري بوابات شوارع المدن، ونوافذ البيوت وكل كوة صغيرة يخترقها ضوء الشمس في فلسطين، ارتفع أنين مفاصل الباب حين هويت في حضن صاحبي، أشتم رائحة ثيابه العابقة بأنفاس الوطن، بدأت تتساقط من جيوبه أصداف شواطئ حيفا.. أعب من صدره ابتهالات القدس.. بيت لحم تلتمع في عين حبات زيتون جنين وحفنات من الزبيب الطري ورائحة العسل.. والخبز.. وبريق أجنحة لطيور مهاجرة..‏

أطفأت على خديه وثيابه جمرات أشواقي .. وقبل أن تهدأ شفتاي من تقبيله قلت: الهدية حفنة تراب من أرض جنين أليس كذلك‏

نعم كيف عرفت؟ وارتفع أنين الباب وهل يستطيع نبض الوطن حبس أنفاسه عن أهله؟ فتدفق لهاثه الحار وهو يمد يده إلى جيبه ليخرج علبة زجاجية بحجم الإصبع ملأى بالتراب التمعت تحت أشعة الشمس بركة ماء لا بل فراشة لا بل عصفورة. لا بل طفلة تهتز في أرجوحتها بدلال لا. لا بريقها عبر مسامات روحي أطبقت أصابعي عليها كمن احتوى عرش العالم، قبلتها بشفاه محترقة بالشوق والحب، فغرقت بحرارة أنفاسي، تخضبت بعرق روحي تململت في كفي وقد سبحت بدموعي، عدت اتحسس وجه صاحبي، يديه، أضمه، أشمه صديقي كلك هدية من فلسطين ثيابك، حذاؤك، شعرك، عيناك.. أنفاسك كلها معفرة برائحة تربتها .. ولون سمائها. هامت روحي تلعق رائحة التراب الممتزجة بدموعي، حتى تخدرت، اندفعت الرياح تهز أضلاع الباب الصفيح بقوة ، تهيج صرير مفاصله عجلات مندفعة نحو الجنوب يعلوها غيم من غبار، شعرت وأنا ما زلت أضم صديقي أن سائلاً لزجاً تدفق على صدرينا، عمدنا آلاف المرات بقطرات حارة من حبات الزيتون المخبأة في القلب، فحملتنا بعيداً بعيداً دموع غزيرة غرقنا بها، وغرقت بأنفاسنا، ما زالت حبات الزيتون تنضح عرقها الذي لمن ينفذ أبداً، وروحي غابت عن الوعي، حين أصبحت وصاحبي جسداً واحداً نرقص حفاة في ساحة ملأى بالزجاج المكسر، فانفلتت الآهات تغرق في اللاوعي كطقوس غريبة، ويحولنا الجسد الولهان غصن زيتون يمتد نحو طريق الهدية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية