و التي تشكل مناخات لمجمل نصوص الكتاب و مرجعها الأولي، صدق قابع في كل ركن و كل حجرة بناء جملة, أو نقش صورة تتفرد, و تتكاتف لتؤلف مشهدًا شعرياً منطوقاً باسم الشاعرة وحدها، و يكون مدخلاً رئيسا لدخول غرف حياتها الخاصة جدا، كأن الشاعرة مجبولة من ضلع الشعر أو مقصوصة من بتلات الألم و التيه و الحب الخاطف اللعين، شاعرة مختنقة برائحة ماض يتسرب هنيهة هنيهة بين أمشاط حلم, أو يقظة متقرحة تفضي إلى العودة إلى الذات, و الجلوس فيه و تسليم أمر مصيرها للغيب و الظنون و القلق المراوغ:
أفتح البابَ / أرتطم بالفراغ / أرتبكُ
الفراغ كان ضيّقاً عليّ / الفراغ كبير وقاسٍ
الأماكن لم تعد تزدحم.
كانت تتهدّل وتنكسر
فيما أنزع شعري عن الوسادة.
الوسائد تنعم بالذكريات.
مفردات هنادي رغبوية مشتهية كل شيء, و تكاد تكون مرعوبة من تدفقها و سيلانها اللامبررين، الرغبة المنتزعة التي تحيل الشاعرة و تجعلها تسترسل في طباعها و شعورها و ذكرياتها و اصطكاكها بشهوات خجولة تتأجج تحت لسان الكلمات، كل كلمة ملغمة بألم طافح سينفجر بين الحين و الحين، لكن اللغة بحيلها و مكرها تؤجل كل شيء, و تبعد تلك المتعة (الرغبة المؤجلة)نحو أزمنة و أمكنة تتراءى لأول مرة في مخاطبة وهمية لإنسان لا يرى و لا يسمع دقات قلب تستنجد الكمال و الدفء و الإصغاء:
الألم يهرم / لا يجفّ أمام العتبات
تحت شمس الظهيرة / الألم يكبر رغماً عنّا
ينشر بقعه على دقائقنا / يندفع في موج أحلامنا
يكسر شجر أنوفنا / نتبعه نحن الغاوين.
الألم وحده ألفٌ لا تلتفت.
هنادي زرقة شاعرة منشغلة ومنذ كتابها الأول (إعادة الفوضى إلى مكانها) الحائز على جائزة (محمد الماغوط) الشعرية على إيجاز مفردة العذاب و العذوبة, وعلى تحسيس الدهشة و الاغتراب و استنطاقهما حتى وان تحملت اللغة أعباء تركيب هذه التضادات و العمل على إيقاظها, و هي تتقلّب في سياقات شعرية تلتمع و تتدفق فجأة في صداها المحيّر، وربما هي شكل من أشكال الامتحان المفرط للذات الشاعرة, أو اختبار مرح لشعريتها التي امتزجت بين كشف المعنى و إخفائه و بين إثارة اللفظ أو لمسه من خارجه:
هو جسدي / أنظر إليه كل يوم
أُعجَب به / وأقول:
تستحق أن تكون جسداً
لامرأة مثلي..
حين تعب جسدي
كم تمنيت لو أنه لامرأة أخرى.
نصوص (زائد عن حاجتي) تقف على تماس مع النصوص الشعرية النسائية السورية التي نحتت بقليل من الحظ ملامح شعرية جديدة قوامها (الجرأة) في اقتحام عالم الشعر من بوابته الأمامية، و خلق حالة من التواصل مع تجارب حداثوية طارئة بدأت تظهر ثمارها على يد الكثير من الشاعرات السوريات.