|
في السديم: بين الظواهر والشيطان!! رسم بالكلمات
في البدء كانت الكلمة، والكلمة قول، فهي صوت.. والصوت قراءة للوجود لمرة واحدة، يتبدد بعدها، كومضة البرق, لحظة ميلادها هي مماتها. الصوت قديم، قراءات عابرة، ترجمات للمرئي المحسوس بالموجات. أما الكتابة فحديثة، نعم هي الكلمة القديمة، لكن بشكل العلامة الجديدة! والعلامة خلق للمرئي المحسوس ثم للمعنوي المجرد!! فلماذا؟؟ لماذا اخترعها أو اكتشفها والفرق هائل؟!.. إن لم يكن لأن السمع والبصر والفؤاد كل ذلك صار تهافتاً لا مسؤولاً، في كون تلاشت موجوداته في سديم لا ينتهي إلا بسديم، فلماذا؟.. مرة أخرى! هل كانت اختراعاً أم اكتشافاً؟ فقط لو أني أعرف!!. سديم 1 الوجود سابق على الماهية. حين أدرك البشر أن مجرد التجسّد أو التجلّي لا يفيد وجوداً أو عدماً في المعنى، تهاوت الحواس. ما عاد كمّ الشكل، إنما نوعه معتبراً. منذ ذاك الحين والدروب تُشَقّ في كل لحظة طويلة شائكة لتعقّب المعنى، فلما امتنع وتعذّر انقلبت بعض الدروب ميادينَ لاقتناص دلالات، أُقيمت لصياغتها منابر الكلمات، والشيطان يسخر.. حتى إذا أتى على المنابر حينٌ من الدهر، تجرّد فيه الوجود من ماهيته والشكل من مضمونه، وجم وتجهّم. أن يكون المرء من أرباب الكلمة، يعني أن يتجاوز مجرد الصوت إلى ما وراء الشكل، أن يجهد في طلب الدلالة كلما أعياه المعنى.. يعني أن يجحد أربعاً من حواسه ويحصر اللسان بين الجحود والريبة. ومنذ أمد والمنابر تغصّ بوجوه مذكرة تهيم في خرائط الجسد، وتنضح بالاستعداد للتهريج وقراءة الكفّ والفنجان ومسح الأحذية وقطع الطريق والقرصنة.. كلماتهم مكتوبة لا خلق فيها بل ترجمة لظاهر يبدو لكل حي، لا للعاقل وحده.. منذ أمد والمنابر تغصّ بوجوه مؤنثة، وتحمل الاستعداد لأن تكون تفاحة. من الظواهر ما لا حقيقة له. زبد البحر ظاهرة مرئية.. تختنق كلماتي فيخرج الشيطان عن صمته: ظاهرة صوتية!!.. يغرق في الضحك. يقهقه حتى يوشك على البكاء، يوشك على الإغماء.. سديم 2 الموضوع انعكاس للذات! الذات انعكاس للموضوع!. إلى منابر الأوراق ينفر نصف الكون بعد النصف الأول. تتجمّع كلماتهن. تتقاطر عملاقة أوسع من الأفلاك الهائلة. لكن يتضاءل أغلبها الذي لا يخرج عن الشوق أو الكره، الرغبة أو النفور.. الموجه إلى النصف الأول!. يسجل الشيطان ويحصي، يذيع الأخبار عن مراهقة أبدية لن ترى الرشد أبداً. حين يصبح تيه الذوات بخاراً وهباب أجساد، حين ينكمش الموضوع ضئيلاً، بحجم ما تلتهمه، بحجم ما تخرجه ديدان المقابر، يتخلق شكل جديد يتنكّر له أي مضمون، تهدر ظاهرة لا وقائع تشدّ أزرَها، تماماً كما يهدر النهر العظيم في حلم راعٍ يغفو في البادية بين قطيع كتم المَحْل أنفاسه.. فأي ذات تلك وأي موضوع ذاك؟! لكنها علامات! كتابات!! هل يمكن أن تغدو اللغة أيضاً ظاهرة فراغ؟! ترتسم على وجه الشيطان ابتسامة صفراء، تتملى خيبتي.. مجرد أنوثة متورّمة.. مجرد ظاهرة لغوية.. سديم 3 في الادعاء بالخاصّة وبالعامّة أوهام وغايات. كان سابيليوس الحمّال قارئاً وكاتباً. كان أبو حنيفة بزّازاً ما ترك مقروءاً وما توانى عن كتابة. كان سبينوزا بائع الساعات كاتباً لروائع الكلم.. بل إن النبي الملك داوود كان راعياً.. أفمن أجل هذا ضجّت أجواؤنا بدعوات جحافل من الكتبة لتبسيط الكلمة؟! راحوا يسهبون ويتوسّعون، يقدّمون أوامرَ بحلّة المواعظ بأن تتعدد اتجاهات المكتوب، لا نحو النخب فقط، بل حتى نحو العوام!! لو تدبّروا شأن العامة والنخبة لأدركوا تقلبات وجوه الزمان، تلوّنات جسد المكان. على الشواطئ الباردة لبحر الظلمات مازال حمّالون وبائعون ونقّاشون كثر يتعاطون المكتوب بشوق ونهم.. فأين أولئك من أقرانهم المنتشرين في أسواقنا وساحاتنا ودروبنا؟! أين أولئك المتعاطون من مدمني السمع لا النظر، الإصغاءِ لا الكلام قليلِ قديم المحفوظ لا جليل جديد الفِكَر؟!.. لو استبدل جحافلُ الكتبة بسؤالهم – لماذا يكتب هذا ما لا يُفهم؟ – سؤالَ - ما لنا لا نفهم؟ - لطال عمر أبي تمام أكثر.. لا نخب عندنا طالما افتقدنا عوام سبينوزا والجاحظ.. ولا عوام لنا سوى تلك الجحافل التي خنقت الحروف، حوّلتها من مهر لا يمكّن إلا خيرة الفرسان، إلى ضبّ سهل المنال للجنادب والهوام، فغرقت الأوراق بالثغاء والخوار، بالنهيق والنعيق.. تطورت دعوتهم أكثر. أخذوا يصرّون بشراسة على فضيلة اجترار السائد والمألوف، وينشطون لتدبيج التهم لأصحاب رذيلة، تعاف الميتة، بالزندقة والخروج والمروق.. هذه المرة غمزني الشيطان وهو يلوك كلماته بلسان إفرنجي.. أما هذه فمجرد ظاهرة سيسيوبوليتيكية!!. سديم 4 إذا غامرت في شرف مروم / فلا تقنع بما دون النجوم. أول صوت أسمع مذ افترقنا بلا خيار أو اختيار.. إنه منطق الدروب وأنساب الكلمات.. ألا تصدّق يا صاحبي أن لها أنساباً تتدرج بالتباين من غثّ القمم إلى ثمين الحفر؟!. اهبط إذن لتخلص صوتك من صدى ضائع! من وهم ذائع! أي برج هذا الذي يوهمك الإمساك بالنجوم؟ وأية نجوم هذه إذ تختفي براحة كفّك؟ اهبط فليس قدراً أن يتناثر سيزيف شظايا تهيم على الأرض اليباب، يطرب بأصوات رفاقه، يناديهم وهم في أعالي الشجيرات العارية الميّتة، فلا يحظى سوى برجع الصوت.. (في غيابكم أدرك الأرضَ الثكلُ عطشاً مبيراً، فتشهّت من أقدامكم الارتواء.. الأرض تشتهي أقدام أبنائها كما يشتهي النهد الناضح شفتي رضيع أسرف في الغياب..) يداور اليأسُ سيزيفَ، فيستصرخهم: (يا إخوتي! لا خير في عمرنا، إن حمّت على الأرض الأنواء، إن شهر العطش شهوته، فلم نتناسخ في قطرة ماء!..) أقسى الأقدار أن يمضي العمر هباء. لكن للشيطان بلاغة المرآة!. أصمّ أذني فيأتيني عنوة صوته.. مجرد ظاهرة! محض ظاهرة جمالية!.. سديم 5/6/7/....! سديم ؟ من الذي خلقه؟ أنا! نعم أنا يوم بنيتُه مفهوماً نفختُ فيه كلَ ما لا أقوى على حمله. استنطقُته بما خفتُ من قوله، أستكتبُه ما أترددُ في كتابته. أخلد إليه في رؤيا، في حلم أرتعد من تخيّل صحوته!. ذات يوم سأرحل إلى حفرتي مذعناً كما أتيتُ، وسيفرغ الدود من التهامي، فتهلل الحماقة بصيحة العدم. سيصعقها أن بعضي الذي خلقتُ يبقى بين الكلمة والكلمة رابضاً، لا حفر تحتويه، لا دود يزدرده. حينها سيكون هو الوجود وسأكون أنا العدم! فليت شعري كيف يكون هذا من ذاك؟! وكم خلقنا وبنينا؟!. فمن ذا الذي يملك البرهنة بين الماهية والهوية بأكثر من تخمين الحدس وظن الفرض؟!.. في ذروة الشباب يكون المرء وجودياً، في الكهولة يغدو بنيوياً، وفي الشيخوخة ينتهي تفكيكياً. هاجمتني الشيخوخة قبل الأوان، كما اعتاد الصيف الطاعن أن يُردي في بوادينا الربيع القاصر. لأول مرة أتحسس دموعه وهو يختنق متمثلاً: لقد أسمعت لو ناديت حياً / ولكن لا حياة Fir.najj@gmail.com"تنادي. Fir.najj@gmail.com">لمن Fir.najj@gmail.com"تنادي. Fir.najj@gmail.com
|