تصفيق حار رغم الصقيع
على الرغم من حرارة الجو المنخفضة وتساقط الثلوج إلا أن صالة مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون قد غصت بالحضور الذي أتى لمشاهدة العرض الأول في سورية لفيلم (ملك الرمال) ، وقد أمد التصفيق الحار للجمهور الأمسية السينمائية دفئاً خاصاً .
سعى المخرج المثير للجدل في فيلمه إلى الربط بين الارهاب الذي يُمارس في العديد من الأماكن في العالم (بما فيها سورية) وبين جذوره ، محاكياً بذلك الراهن عبر انعكاس وامتداد الارهاب ، فهو بالنتيجة فكر ولاينتهي بقتل (أسامة بن لادن) ، حيث انطلقت أولى مشاهد الفيلم ضمن إطار توثيقي لأحداث (11 أيلول) في الولايات المتحدة الأمريكية وللتفجيرات التي جرت في مدريد ولندن ، وانهى فيلمه بالإشارة إلى ما يجري في سورية وربطه مع الارهاب ، ما يترجم قول أنزور في أحد لقاءاته (وجدت تشابها كبيرا بين ما حدث قبل مئة عام وما يحدث اليوم من فوضى قائمة في العالم العربي، وإعادة رسم ملامح المنطقة) وقوله في مكان آخر: (الفيلم يبحث في جذور فكرة الارهاب التي انتشرت في العالم والفكر الوهابي الذي ساعد على انتشار التطرف والفئات العنيفة التي توزعت في انحاء العالم) .
الفن موقف
بجرأة عالية يثبت المخرج نجدت أنزور أن الفن موقف، وتجلت الجرأة هنا ضمن أكثر من منحى ، فمجرد طرح هذا الموضوع بالذات هو جرأة وربطه بفكرة الإرهاب إضافة إلى طريقة معالجته على المستويين الفكري والبصري ، فهو يحمل جرأة عبر المشهدية البصرية المُقدمة لا تقل أهمية عن جرأة المضمون ، حيث جاء الحوار مليئاً بالدلالات وأحياناً الإدانات ، مثيراً العديد من الإشكاليات ، متناولاً مفاصل زمنية من رحلة عبد العزيز إلى السلطة اختار أن يبدأها بمشاهد يكون لها أثرها البالغ لدى المتلقي ، حيث تظهر العرّافة مع بطل الفيلم والغربان تحوم فوق رأسه ، بما يحمله المشهد من زخم تعبيري ودلالي حول ماهيّة هذه الرحلة وتداعياتها التي تجلت شيئاً فشيئاً بزعيم لديه مجموعة تضم ستين رجلاً امتهنوا القتل والسرقة ، وتكاثُر هذه المجموعة وانتشارها شيئاً فشيئاً لتصل إلى الإطاحة بآل رشيد وقتل زعيمهم ومن ثم السيطرة على الرياض مروراً بسلسلة من الخيانات والقتل والدماء والتشريد وتوظيف الدين لتبرير الغايات والمآرب (شعار السيف والدين) .
كما يسلط الفيلم الضوء على علاقة الأمير عبد العزيز الوثيقة بالإنكليز ، ومرافقة المستشار البريطاني (جون فيلبي) الدائمة له واسلامه بناء على طلبه ليمسي اسمه (عبدالله فيلبي) ، ودعم الحكومة البريطانية وقدرتها على التأثير عليه لدرجة أنه سلّم بدخول اليهود إلى فلسطين ، وبالعموم يحفل الفيلم بالأحداث التي تصب في خدمة الفكرة التي سعى المخرج إلى تقدميها .
رؤيا بصرية
يكمل المخرج أنزور مشروعه الذي سعى إلى تكريسه من خلال مجموعة من المسلسلات (الحور العين ، المارقون ، سقف العالم ، ما ملكت أيمانكم ..) ولكن هذه المرة اختار السينما لتكون صوته الصارخ وليصل مداه إلى أصقاع الأرض بعد عرض فيلمه في لندن والآن في سورية ، والعمل دؤوب لعرضه في عدد من عواصم العالم، منها موسكو ونيويورك ، الأمر الذي يبرر أنه ناطق باللغة الانكليزية ، فما نفع الفن إن لم يصل لكل الناس ؟..
بكاميرا صادمة ومتربصة تارة، مقتحمة وطارحة للدلالات والرموز تارة أخرى ، وأحياناً توثيقية (كما في بداية ونهاية الفيلم) سعى المخرج إلى السير بين مشاهد فيلمه ضارباً بعرض الحائط الألغام التي تعترضه في كل خطوة منه ، ساعياً إلى ابراز مفاهيم غاية في العمق ، من خلال أحداث وعبارات عمد إلى تكرارها لتكريسها والتأكيد عليها ، ورغم أن السينما فن الاختزال والتكثيف ، إلا أن الأولوية هنا كانت نحو ترسيخ الفكرة لدى المتلقي خاصة فيما يتعلق بفكرة الدم والارهاب والقتل والدمار (ثأر الدم لا ينام) ، كما أن بطل الفيلم تارة يختبئ ويرسل مقاتليه للنيل من عدوه وتارة أخرى يسعفه ابن عمه في مبارزة كاد يخسرها فيقتل غريمه غدراً ، إضافة إلى علاقته المشوّهة بالمرأة والنظرة الدونية لها ، وليس بعيداً عن تلك الدلالات تكرار مشهد الغربان التي تحوم في السماء فوق رأسه .
قدم المخرج رؤاه مستنداً إلى مراجع تاريخية حاول من خلالها استقراء النتائج ، وإلا فما معنى اختياره (القصر الرملي) ليكون المكان الذي تجري فيه أحداث مشهد جمع بين المستشار الانكليزي وعبد العزيز ليبلغه أنه سيكون ملكاً على تلك الأرضي وضمها ضمن مملكة موحدة ، وكان المكان هنا للدلالة والتأكيد على الفكرة الأساسية للفيلم ، فما بني على الصخر هو راسخ وما بني على الرمال فأي هبة ريح تطيح به .
مشاهد القتال والتعامل مع المجاميع وقدرة الممثلين على الاقناع خاصة عبر تفاصيل تحمل تفاصيل المنطقة العربية ، كانت من المهام الصعبة التي تخطاها المخرج بنجاح ، وسعى أنزور في أكثر من مكان إلى اللعب على الزمن ، حيث تناول الفيلم زمن (عبد العزيز) وهو شاب ومن ثم وهو هرم ، عبر تقاطعات استخدمها لأكثر من غرض منها الانتقال بين حدث وآخر منبهاً مرة أخرى أنه يعالج في فيلمه (فكر) أكثر من معالجته سيرة حياة شخصية .
الوجه الآخر
لم يكتف الفيلم بطرح الوجه الأسود وإنما طرح الوجه الآخر المشرق عن الاسلام المعتدل والعرب بما يحملون من شيم ومكارم ، وتمثّل هذ التوجه عبر أكثر من منحى وأكثر من مشهد، فالشيخ المعتدل الذي قضى قتلاً ولن بتراجع عن قول كلمة الحق ، إضافة إلى إظهار الشيم العربية الأصيلة التي ضاعت على محراب السلطة والدم ، تلك الشيم التي ذكّرته بها فتاة أراد الزواج منها عنوة ومن ثم قتل حبيبها ، ويصب في المنحى نفسه مجموعة من الحوارات التي رصدت في مضمونها القيم العربية الأصيلة والتعاليم الحقة في القرآن الكريم .