إذاً في معرض محاولة التشوف أو المقاربة الروائية تحديداً – دون سواها بغاية الإفادة من ذات (معتلة): إما جسدياً (جسمانياً)، وإما عقلياً (عصبياً) وإما (في الموقف الاجتماعي – العصابية (مثلاً) – نتوقف عند عملية تشريح أو فهم وتحليل بعض ملامح عبقريات روائية. هنا أجدني أبتعد في البحث عن أمراض بعض (العرب الروائيين)، ربما مؤقتاً – وأتفحص دلالات إنبات الإفادة العبقرية لدى أسماء معروفة تماما : (فيودور دستويفسكى – 1822- 1881)، جيمس جويس (1882- 1948) وأملي برونتي (1818 – 1848) وأخيراً (أرنست همنغواي 1899- 1961).
إن بدأنا بأميلي برونتي – صاحبة رواية (مرتفعات وذرنج) لعلمنا مبدئياً أنها تعاني من مرض معد متأصل في العائلة كلها هو (السل). وهو مرض لم يمهلها طويلاً – بعد أن نجحت في إبداع روايتها (مرتفعات وذرنج) - لم تعش أكثر من ثلاثين عاماً. لنلاحظ أن شقيقتيها أيضاً أصيبتا بالداء ذاته (وأعني شارلوت وآن – إلى جانب شقيقها). كل الأسرة على ما يبدو ماتت بالسل.
ولكن عبقرية برونتي ليست تكمن في المرض بقدر ما في نجاحها في تطبيق قاعدة (إن كل روائي إنما يكتب روايته) أكانت تعي هذه الحقيقة أم لم تكن – المقصود هنا أن كل روائي يكتب رواية حياته أو ما يراها أو ما يريد أن يراها حياة له أو رؤيته الخاصة بالحياة ككل .
هذا ليس ضرباً من الهلوسة والهذر. إذ ثمة من لا بد أن يتساءل: وماذا نقول في روائي عبقري – مثل دستويفسكي – وقد كتب عدداً من الروايات لا رواية واحدة؟ سؤال منطقي: لكن عن التنوع في العزف المنفرد على آلة وحيدة؟ إن برونتي كانت بالتالي حبيسة (المكان) و(العلة) الجسدية، في وقت واحد. كتب عليها أن تكون مريضة جداً وهي تدري أنها حتما ملاقية مصير أفراد العائلة بدءاً من الأب والشقيق – وفي الوقت عينه كان عليها الإقامة – في العزلة في بيت قرب قرية هاويرث – مطلة أيضاً على مرتفعات وذرنج. اعتلالها الجسدي جعلها صعبة (المعشر).. وربما هذا ما انعكس في شخصية (هيثكلف) الغريبة – العصبية – المجردة من كثير من الأحاسيس الإنسانية.
وإذا كان هناك من يمكن أن يجادل بنفي (مقولة) الراوي يكتب حياته أو روايته – على اعتبار أن برونتي كتبت رواية واحدة والموت منعها من أن تكتب سواها، فأنا انتقل إلى روائي عظيم مشهود له وأقول أكثر من ذلك إن دستويفسكي كان صاحب مرضين (أحدهما جسدي والآخر ذهني – أو عقلي) وأنهما اندغما معاً وتماهياً في ذاته ليبدع نقائض جوهرية في (الجريمة والعقاب) أولاً، وفي (مذكرات في الغياهب) ثانياً. والحقيقة أن الرواية الثانية (أي المذكرات والمترجمة تحت عنوان ”الإنسان الصرصار”)، إنما كتبها عنه وعن تجربته – بعد نجاته من حبل المشنقة بالإعفاء الصادر عن القيصر في آخر لحظة (حيث أن دستويفسكي كان تحت حبل المشنقة) فجاءته النجاة بالروح بإعفاء من القيصر وقبل دقائق من إنفاذ الإعدام (شنقاً حتى الموت).
لقد تم تخفيف الحكم إلى أربع سنوات من السجن والمنفى في (سيبيريا). ولكنه ظل يعاني من مرض الصرع إلى أن مات. في هذه الأثناء كان ثمة الصراع – في أعماقه – بين التسليم للقدر وبين الإيمان. ولعل رائعته (الجريمة والعقاب) كانت التجسيد الحي للصراع الذاتي في أعماق دستويفسكي. سيقال هذا أيضاً إيغال غير مقبول في إلباس الفكرة ثوباً غير ثوبها: بيد أني أسأل (كيف يمكن فهم جريمة راسكولنيكوف؟) سيما إن علمنا أنه أقدم على (قتل – وسرقة) إنسانة جشعة هي (عجوز شمطاء وبشعة) و(مرابية) مع أنها في أرذل العمر؟
لم يكن دستويفسكي – مع ذلك – ليصنف على أنه (كاتب اجتماعي) بل هو (الغائص عميقاً) في النفس البشرية، وإلى حدود تجاوزت كثيراً زمنه، وربما كانت التمهيد الطبيعي لانغماس عدد كبير من الروائيين – من بعده – في التحليل النفسي للشخوص والأحداث معاً.
هنا أجد الربط الأكيد – الغريب أيضاً – بين دستويفسكي وجويس صاحب رائعة (يوليسيس- أو عوليس) التي نشرها في العام 1922، واستغرق بعدها سبعة عشر عاماً لينجز الرائعة الثانية (يقظة فنيغان) – مع أن الربط بين الروايتين المذكورتين يبدو بعيداً جداً، إلا إن قرأنا (صورة الفنان في شبابه). إن جويس يقول: (ما لم أعتد عليه أبداً في شبابي كان الاختلاف الذي وجدته بين الحياة والأدب).. لماذا ؟ السبب بسيط ويمكن إدراكه بقليل من الجهد.. إن جويس كان يعاني من (ضعف البصر) – لقد أجريت لعينه المعتلة (35) عملية جراحية طوال العمر. ليس يسيراً على إنسان يريد أن يكون (مبصراً إلى درجة الحساسية الشديدة) أن يعاني من ضعف في (الإبصار). ألا يجدي نفعا هنا إذا قلنا – جدلاً – إن اعتماد جويس التفجير (النووي) الزمكاني – في (يوليسيس) هو (التعويض الذاتي العمق) عن العجز الذي يشعر به إزاء – العجز على الرؤية البصرية (الحسية) – والرؤية الشفيفة تحديداً – للحدث – وإن كان في داخل (دبلن) ولمدة ثماني عشرة ساعة (في أثناء الحرب العالمية الأولى) – وهو زمن رواية (يوليسيس – عولس)؟
ليس من مهمتي أن (أسقط) على المبدع ما ليس فيه – حتى في مقاربة مجموعته (أهل دبلن) – الأولى التي كانت كل قصة من قصصها (تعني فقدان أمر ما – ربما مسحة الإيمان أو ربما مسحة الثقة – أو المقدرة على مواصل حياة عبث).
إن تفجير الزمن – وتفجير فعل الإنسان في الزمن – لدى جويس – لم يكن يعني – بأية حال الغوص الطليق في البحر النفسي حتى الغرق – بل هو التعبير عن محاولة احتضانه الدنيا كلها – بما يمكن لوعيه أن يستوعب – وليس مهماً بعد ذلك أن يمتلك المتلقون قدرة الوعي ذاتها لكي يتم استيعاب واحتضان (صورة الحدث) – بالكامل. ربما هذا كان احد أهم وأخطر ما يواجه (الباحث الدؤوب) عن قراءة متعمقة وواعية لأعمال جويس – وفي المقارنة مع دستويفسكي من هذه الزاوية لا يمكن (إدانة جويس) كما لا يمكن إدانة (دستويفسكي) بمعنى منح الاثنين الحق في (صناعة العالم كما يريد هو أو كما يراه هو) وليس كما هو العالم حقاً، ولا الصورة المشتهاة له من قبل جمهرة المتلقين – وبالطبع من هؤلاء المتلقين (النقاد) بالدرجة الأساس.
أين هي بالتالي عبقرية هذين الروائيين؟ نزيح جانباً البديهية المتصلة (بالموهبة) ومقولة (العقل السليم في الجسم السليم) وننطلق من مقاربة (لقراءة السيرة الذاتية – غير المكتوبة للروائيين). ليس المطلوب هنا أن يفهم أنني أبحث عن (المرض) لكي أبحث عن المبدع – المطلوب أن أبحث عن أثر المرض في مقدرة المبدع على التجاوز والتخطي والتفرد وإلى حد إلهام الروح العبقرية في خلق عالم جديد من عالم مريض أو من عالم مأزوم. وليس من الاشتراطات هنا أن يكون المريض مصاباً بالعلة (منذ الولادة – خلقياً – ولا حتى إن لازمته عقوداً طويلة).. إن ملازمة دستويفسكي للصرع حتى الموت لم تكن عكازته في العبث – إن صح التعبير – بالصيغة الانتقائية للزمان والمكان – وخلق جدلية بينهما تتجاوز القدرة على الاستيعاب – بل إن الرجل – برأيي تصرف دائما وكأنه ليس مريضاً على الإطلاق – أي أنه تجاوز في مسلكياته محظورات الصرع – وأيضاً ما يترتب على (المعالجة – بالمؤقتات المسكنة) التي لا توصل المرء في العادة إلى (الشفاء التام) بل من أثرها الأساس الإرغام على (النوم) وسيلة لنسيان الألم أو التخلص – وقتياً– من وعيه أو إدراكه أو حتى معايشته. إن الروايات الخمس الأساسية لدستويفسكي هي (قصص حياة الرجل) – كل واحدة منها من زاوية نظر ومن وجهة نظر كذلك. وهي ذي العبقرية الفعلية التي تقنعنا، قراء ومتلقين، بأن ليس ثمة أي رابط بين هذه الروايات سوى أن مؤلفها شخص واحد.
في هذا تتطابق مسيرة الرجل الحياتية مع مسيرة أرنست همنغواي، مع فارق جزئي مهم جداً. إن همنغواي شارك عملياً في حربين (الأولى الأهلية الاسبانية والثانية الحرب العالمية الثانية) – وهو يدرك – في الوقت عينه – انه شخص (مأزوم) وإن (الأجراس تقرع) للعمالقة فقط. ولكن حين يكون هو (سانتياغو، بطل الشيخ والبحر) فالمصير هو (الكارثة). إن ما اغترفته يده من ماء الحياة سدى وهباء وبالتالي فإن سمك القرش أولى (والنتيجة انتحار الرجل ذاته – بل وإصراره على الانتحار – بعد فشل المحاولة الأولى بعدة أيام نجحت المحاولة الثانية فانتحر برصاصة في الرأس).
لا يمكن أن أقبل ما يقوله بعض النقاد أو القراء أو حتى بعض المحللين من أن همنغواي انتحر بسبب (كون الانتحار عادة في الأسرة) بما أن والده سبقه وجده وعمه. ولست أدري كم من أفراد العائلة أيضاً قضى انتحاراً – لكني أوثر عدم الرضوخ لنظرية (قدرية) آمن بها الرجل ففعلها بإصرار منقطع النظير.
لقد بدأ الرجل حياته من ضمن مجموعة شبابية أسمت نفسها (الجيل الضائع) ولنلاحظ الضياع كيف تحول إلى إنجاز إبداعي رائع في العالم من (لمن تقرع الأجراس، ووداع للسلاح – إلى الشيخ والبحر)؟
لا يمكن قبول الزعم بأن الرجل صائر منذ البداية إلى الانتحار. لو كان الأمر كذلك ما أبدع قبل (الشيخ والبحر) – هذه الأعمال الرائعة الممجدة للحياة – في صراع الإنسان ضد الحرب – قتالاً واستبسالاً حتى الشهادة.
وحتى سانتياغو بطل رواية (الشيخ والبحر) كان شخصية (تراجيدية)، وقيل إن همنغواي كان قد مزق مئات الصفحات والأوراق ومن ثم أعاد الكتابة في هذه الرائعة حتى لخصها فلخص ما كان قد بدأه حياته في باريس شاباً. إن الصراع العنيد والقوي والعنيف والمضني مع الطبيعة مصيره النهاية المحتومة – لاشيء – القبض على (الهواء) – هيكل السمكة التي فاز بها سانتياغو ما يعني لهمنغواي أن يقبض من الحياة – في لحظة المقاربة بين قصة حياته وقصة العجوز – الشيخ – سانتياغو – النتيجة في المحصلة النهائية الموت – فإن تأخر مجيئه – كان عليه هو (أن يقدم) زمان وصوله، وهذا بالضبط ما فعله همنغواي.
ماذا كان مرض همنغواي حقاً؟ الجينات الوراثية للانتحار المؤكد؟ أم أنه كان بالفعل مريضاً جداً، دون أن يدري؟ أي كما يدعي أطباء من وجود (فائض حديد) في دم الرجل – وراثة – ما يسبب اللجوء إلى العنف مع الذات. ما كان همنغواي لا منذ الشباب ولا منذ الكهولة مريضاً (جسمانياً أو جسدياً) مرضه العضال الحقيقي الذي كان يزول في (حماة الحياة الصاخبة) هو في عقله ونفسه. بالتالي ما إن ركن إلى حياة (هادئة) في كوبا حتى طاف المرض على سطح العقل – من (تيار وعي غير انسيابي – إلى تيار وعي انسيابي هادئ أوصله إلى التصميم على الانتحار.
هامش مهم جداً:
ليست دراسة أكاديمية. إنما هي حصيلة (معايشة عن بعد) وعن قرب.. مع عدد من الروائيين في العالم. ليس ثمة ما أرغب في الوصول إليه من احتمال أن يظن بعضهم أنني أريد أن أتوصل إلى أن (كل روائي) لكي يبدع بعبقرية يجب أن يكون معتلاً. بل الحقيقة أن كل (مبدع) هو مأزوم – وربما كانت أزمة المبدعين أساس النجاح في الإبداع. الإنسان السعيد والناجح اجتماعياً والسليم جسدياً ونفسياً وعقلياً – ليس في حاجة إلى (معاناة الإبداع الأدبي أو الفني). وفي المقاربة مع الروائيين العرب البارزين– من قبلي في الأقل – لم أجد منهم من لم يكن مأزوماً أو يعاني من مرض ما (السكر أو القلب مثلاً) وربما طفرة وراثية.