وتفكير، وقال إن الرجل «لم يكتب ولم ينقد إلا بعد أن صرف عشرين سنة من المطالعة». وقد كانت مساهمة هذا الرجل في النقد والترجمة خلال النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي مساهمة كبيرة، تستحق ما ذكر شفيق جبري وما هو أكبر. ولكن منير سليمان لم يلبث أن تحول عن دنيا الأدب إلى الفنون وخاصة الرسم، قبل أن يسكت كما سكت سواه.
من المعروف أن أبرز الذين أسهموا في التعريف بالآداب الاشتراكية على نحو خاص هم من جلال فاروق الشريف وسهيل أيوب. ومنير سليمان، ولكن يتوجب علينا أن نشير أيضاً إلى أن الجهود التي بذلها منير سليمان لوصل أدبنا بالعالم لم تتوقف عند الآداب الاشتراكية، ولا عند حدود الترجمة، فقد كان يؤثر الإعداد أو التعريف أو التلخيص. وإضافة إلى ذلك فقد ترك عدداً لا بأس به من المقالات أو الدراسات أو المراجعات النقدية، ومنها ما كان يتصل بالواقع الأدبي في سورية آنذاك.
فتحت عنوان (أأزمة أدب أم أزمة نقد؟) كتب منير سليمان في مجلة النقاد (عدد 18 / 10 / 1952) مناقشاً معالجة طه حسين لركود الأدب في العالم،
ومعارضاً لها، ومحدداً مهمة النقد الأدبي بأن ينظر إلى الأدب من خلال مقومات العصر الذي يعيش فيه. وهو يعدّ أحد أسباب ركود الأدب ذلك النقد القلق المضطرب، ويلح على تجديد النقد، وحيويته، وعدم تحويله إلى عقيدة إيمانية. ولقد كان الكاتب كما سيظهر من دراستنا لكتاباته التالية حريصاً على تحقيق هذا الذي يتحدث به عن النقد. ولعله من القلائل الذين أعاروا حالة النقد اهتماماً مناسباً في تشخيص الأزمة الأدبية فهو لم يطرح الصيغة التي طالعتنا فيما مضى (أأزمة أدب أم أزمة أدباء؟)، بل كان أكثر دقة وقرباً من الواقع، كما يبدو فيما كتبه تحت عنوان (النقد باعث الأدب) وفيه يلح على علاج ركود الأدب عبر نقد سليم عاقل وصادق.
ومن نماذج احتكاك كتابة منير سليمان النقدية بالواقع الأدبي أيضاً، حضوره في المسابقات القصصية التي كانت تجريها مجلة النقاد، فقد كتب عن إحداها مستهلاً بمقدمة طويلة حول مسؤولية الكاتب وقصة الكاتبة بيشر ستو: كوخ العم توم. ثم ركز على تنطع قصص المتسابقين للأمراض الاجتماعية، وبدا عارم التفاؤل بالمستقبل. وقد أشار عادل أبو شنب إلى جهد منير سليمان في هذا الصدد. وذلك في كتابه: صفحات (مجهولة في تاريخ القصة السورية)، كما أشار إلى بحث آخر لمنير سليمان في القصة. وصنيع أبي شنب هذا من الإشارات النادرة طوال عقود لما كتب ذلك الناقد المجهول.
أما المراجعات النقدية: التي كان يكتبها منير سليمان بين الحين والحين حول النتاج الجديد، فهي شكل آخر من أشكال صلة كتابته بالواقع الأدبي. ومن ذلك ما عقب به على نقد (قلب) لمجموعة (درب على القمة) و(قلب) هو الاسم المستعار لشوقي بغدادي. كما كتب منير سليمان عن ديوان (سحر) لبديع حقي مناقشاً المقدمة التي وضعها حقي لديوانه. وموافقاً على ما ورد فيها من اهتمام بالموضوع الشعري، وتحديد لمنابعه. ثم يقف سليمان مطولاً عند أولوية الموضوع على الصياغة، قبل أن ينتقل إلى النقد التطبيقي الذي جاء وجيزاً في النهاية، ومركزاً على الأداء الموسيقي، ملاحظاً بدقة التناقض بين مقدمة بديع حقي، وشعره. وآخذاً على الشاعر أنه في قصائده (الغرامية) وقف عند سطح المعنى، ولم يغص إلى أعماقه.
ويهمنا أن نورد من هذه المراجعة المقتطف التالي من بحث منير سليمان في مسألة الموضوع الشعري، لسببين: الأول يتعلق بالناقد نفسه، فقد كانت هذه المسألة إحدى ركائزه الفكرية والنقدية، والسبب الثاني يتعلق بالشاعر والوضع الشعري آنئذٍ، حيث كانت الرمزية لا تزال تحاول أن تجد لها موطئ قدم في الساحة الأدبية والنقدية.
قال منير سليمان: إن الموضوع هو «حجر الزاوية في الشعر والنثر والمقالة والقصة، ثم تأتي بعده الصياغة، وقيمتها فيما تؤديه من معاني الموضوع، وما تبتكره من الأساليب لإدخاله إلى قلب القارئ. وعلى هذا اختلفت المدارس الأدبية في الشعر والنثر... وإني لا أجد حرجاً على من يتبع أي مذهب من هذه المذاهب الأدبية، إذا ألغى فكرته لا يستطيع التعبير عنها إلا بإحدى هذه المذاهب. والمهم قيمة فكرته أولاً، ثم نجاحه في التعبير عنها وإدخالها إلى قلب القارئ»، ويستطرد منير سليمان من معالجة هذه المسألة إلى تحديد المعايير التي يعتمد في النقد فيقول: «يقول فيكتور هيجو والأديب والقاص لا يحكم عليه بحسب المدرسة التي ينتمي إليها، إنما يحكم على أثره الأدبي، وهل أجاد فيه أم قصّر؟ وهل بلغ غايته في إيصاله إلى نفوس الناس؟ ثم ماذا يقصد من ورائه؟ وأية فكرة يتضمن؟ وماذا يهدف؟».
لمنير سليمان مقالات تبحث في جملة من المسائل الأدبية الهامة، مثل: من هو الكاتب، الأديب والمجتمع، الأدب الشعبي، الكاتب والأسلوب، الصورة الأدبية، الأجناس الأدبية وخاصة القصة والأسطورة...
ففي مقالة له عن الأدب الشعبي، تحدث عن هذا النوع من الأدب في الغرب، وذهب إلى أن الأدب الشعبي ينبغي أن يصور كافة الأقاليم والبيئات. وقد عد من هذا الأدب أحاديث (أم كامل) في الإذاعة وأبو كامل ـ كما هو معلوم ـ شخصية شعبية تمثل العجوز الشامية، وقد جسدها الممثل أنور البابا. كما عدّ منير سليمان من الأدب الشعبي ما كان يكتبه أبو حاتم بالعامية في زاوية انتقادية من مجلة النقاد، وأبو حاتم اسم مستعار. ويبدو أن منير سليمان كان يرى الأدب الشعبي فيما بات يُصطلح عليه فيما بعد بالأدب المكتوب باللهجات العامية. وفي مقالة أخرى بعنوان (الكاتب والأسلوب) شرح منير سليمان آراء الجاحظ وشاتوبريان والمنفلوطي في أولوية الأسلوب، وخلص إلى أن الكتابة ليست المظاهر الشكلية. إنها اللفظ والمعنى، الشكل والمحتوى. والأسلوب لا يفصل بينهما. إن الكتابة هي الإفصاح عن شخصية الكاتب، وهي وسيلة اتصال بالغير.
ينحاز منير سليمان بقوة إلى المعسكر الذي يرى الكتابة كائناً حياً، ونتاجاً لجدلية الشكل والمضمون، وهو يذكر في هذه المقالة جماعة الأسلوب الذين يعنون بالصياغة، ويفنّد مذهبهم. ولقد كان ينتهز كل سانحة من أجل ذلك.
كانت صلة منير سليمان بالتراث قوية، ولكن بعيداً عن المحافظة والرجعية والتعصب الأعمى. ففي مقالته (الصورة الأدبية في الأدب العربي) يقرأ في أدب كل أمة روح العصر، ولكنه لا يقرأ في اختلاف أدباء كل عصر من غيره ما يبرر الاستغناء عن التراث. وبعد أن يأتي على مناقشة ذلك، يدرس ما سماه الصورة الأدبية في العصر العباسي. ونستنتج من الدراسة أن مؤدى مصطلح الصورة الأدبية لدى الكاتب هو الوصف الذي يميز مع سهولة الأسلوب وخفته القسم الأكبر من الأدب العربي في العصر العباسي. وهنا ينزلق منير سليمان إلى التعميم في واحد من المواطن النادرة التي يفعل فيها. ولا يلغي انزلاقه هذا سعيه في خاتمة المقال إلى الاستشهاد بنص لأبي حيان التوحيدي، على الرغم من أن النص نفسه ينطبق على ما كتب.
ومن أمثلة الاتصال الدقيق العلمي بالتراث، نذكر أيضاً مقالة أخرى لمنير سليمان هي (الأسطورة في الأدب العربي). ابتدأها بشرح معنى الأسطورة والإشارة إلى قدمها. ويفهم من هذه البداية ومن دراسة المثل الذي ضربه للأسطورة وهو (حكاية الصفرد والأرنب) لابن المقفع، يفهم من ذلك مزجه للأسطورة بالحكاية، واعتبارهما جنساً أدبياً واحداً. وهو من خلال تحليل النص المذكور لابن المقفع يتلمس بعض مقومات هذا الجنس في: العرض، المفاجأة، العقدة، الحل، ويقول في النهاية «والأدب العربي يزخر بهذا النوع من الأسطورة والقصص والحكاية، وما أحرانا أن ننبش عنه في الكتب الصفراء، ونضعه بين أيدي القراء، يفيدون منه وينسجون على منواله». إن اهتمام منير سليمان بالأسطورة كان ذا وجهين في حقيقة الأمر. أولهما ما رأيناه من فهم للتراث وثانيهما يتعلق بالقصة التي كانت شاغله الأول، كما يبدو من مترجماته، وكتاباته عامة. ونضرب مثلاً على جهده في القصة بمقالته (أزمة القصة القصيرة) والتي قدم لها بحديث مسهب عن نماذج الأفكار المتنافرة في العصر الحديث، فللأدب قواعد وأصول، حسب المذاهب الأدبية والفلسفية. وينتقل سليمان بعدئذٍ إلى أن القصة ـ شأنها شأن الأدب عامة ـ لا تستحسن لذاتها. ولكن لخدمة أغراض الحياة. وليست الغاية من القصة الحديثة دقة الوصف، كما أن بطلها هو ذلك الشخص العادي بجزئيات حياته، وأبعاد نفسه، ولا مكان في القصة الحديثة للبطل الذي يسيّره هوى الكاتب.
إن منير سليمان يبدو من خلال هذه المقالة، وما سبقها، والكثير مما لم نذكره، موصول الأسباب بقوة مع أحدث صورة فنية للقصة والآداب عامة في الغرب، ولكن ذلك لم يوقع بصره في العشى.
ولقد كانت مديرية التأليف في وزارة الثقافة، على عهد محمد كامل الخطيب، كلفتني بتأليف كتاب عن منير سليمان ـ بالمناسبة: الكنية مشتركة لا صلة لها بقرابة ـ فهرعت إلى من ييسّر لي استعارة مجلدات مجلة النقاد من مكتبة وزارة الإعلام، فإذا بالغرض مفقود، فهرعت إلى مكتبة الأسد، وعبر الفيلم كما عبر الورق، لم أجد بغيتي، لوفرة الثغرات، فاعتذرت عن تأليف الكتاب، وعسى أن يكون غيري أكبر اطلاعاً وصبراً فينهض بهذه المهمة الجليلة.