تحت عناوين قومية وليبرالية، إسلامية وعلمانية، تقليدية وحداثية، مع أن العدو واحد وعلى الأبواب. قد يبشر هذا الحراك بخير، عندما يتبارز المثقفون بالكلمة والحجة والدليل لإثبات وجهات نظرهم. غير أن الخير نفسه ليس بوضوح الحراك، طالما المعارك عبارة عن جدال، وإن كانت بين ضدين أحدهما على باطل، إذ ليس ثمة أكثر من الباطل غموضاً، مادام كل طرف يزعم أنه الحق المطلق.
كي نضع الأمر في نصابه، علينا إغفال موضوع الحق والباطل والخير والشر، الثقافة لا تعترف بهذه الاطلاقيات، وإنما إلى طيوفها على ألا يخدعنا بريقها، والالتفات صوب الجبهات الأمامية، تلك التي لا يلعب المثقفون فيها دوراً محورياً إلا في الظاهر، عندما يرتضي البعض منهم أن يتلقوا أمر الكتابة لتبرير مواقف الأنظمة وتأييد أهدافها وتزوير دوافعها؛ بينما لا يشكلون فيها سوى طبقة مطبلة من الأقلام الرخيصة، يعملون لقاء مقابل، ليس على حساب نزاهتهم، النزاهة ليست بالحسبان.
إذا كانت وظيفة المثقف أن يقول الحقيقة في وجه السلطة، فالانتساب إلى السلطة، أو أية جهة تملك سلطة، بوسعها أن تفرض بالقوة، أو بالقانون، أو بالحيلة، أو بالتقاليد، أو بالدين، أو المجتمع... ما تريده، يشكل تواطؤاً معها، لا دور للمثقف سوى الترويج لقضايا كاذبة ومنتحلة بابتكار غايات نبيلة أو مفيدة، فيُلغى دوره كصاحب حقيقة لا يخضع تفسيرها لأي جهة، سوى للضمير الأخلاقي.
المعركة سياسية على الأرض وإن التبست بالسماء أو بالعقل والحرية والعدالة... فالسياسة في أحد وجوهها المظلمة، هي فن الاستيلاء على عقول البشر، وتطويعهم بتوجيههم صوب أهداف، تضمن السيطرة عليهم، وقيادتهم نحو مصائر، ليس أقلها مصائر القطيع، والقبول بالأمر الواقع.
دور المثقف جوهري، ليس كقائد، وإنما كإنسان يتحسس الحاضر، وينشر الوعي، وعي البشر بأنفسهم وكينونتهم، ويحفز قدراتهم ليس على فهم الواقع فحسب، بل وتغييره نحو الأفضل، دون أن يكونوا مطية لمصالح الآخرين.
تتقاطع أحياناً قضايا المثقف الحر مع توجهات السلطة، يجد نفسه إلى جانبها يؤيدها من طرف، ويشجبها من طرف آخر، فتلصق به اتهامات لمجرد تصادفهما معاً على خط واحد. وفي الوقت نفسه، تسعى السلطة لاستثمار ما يناضل من أجله، وتجييره لصالحها. تلك مأساة المثقف النزيه أن يجد نفسه في معركة، طرف يتهمه، وسلطة تستغله.
أما المثقف التابع فليس لديه مأساة.