وحماية التعددية الديمقراطية من الخضوع لجماعة معينة ذات برنامج أخلاقي ضيق؟
هذه القضية البالغة الأهمية تجعلنا سعداء لمعرفة أن جون رولس (1921-2002) أحد أشهر العقول الفلسفية في القرن العشرين، أمضى العقدين الأخيرين من حياته مصارعاً مع هذه المشكلة. فهو يقول: «السؤال المؤلم في العالم المعاصر هو: هل تستطيع الديمقراطية الانسجام مع العقائد الشمولية دينية كانت أم غير دينية؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف؟» (الليبرالية السياسية، ص 485).
في هذا المقال سنعرض جواب رولس لهذا السؤال الذي درسه بتفصيل تام في الطبعة الموسعة من الليبرالية السياسية (عام 1993). إن أعظم قيمة لمحاولة فهم الفلسفة السياسية لرولس هي أن المرء يكتسب فهماً واضحاً للشروط المطلوبة للديمقراطية، كي تتوصل إلى حوار ناجح مع التعددية وتنال الاستقرار. ولكن ما هو أكثر أهمية، هو حينما يأتي المرء للاعتراف بتلك الشروط، فهو سيدرك أيضاً لماذا بعد سبتمبر 2001 لم يعد الحل الذي طرحه رولس ملائماً للمستقبل.
مأزق التبرير الديمقراطي
تبدأ الليبرالية السياسية بملاحظة أن البيئة الثقافية للديمقراطيات الحديثة تحتوي على أديان متنوعة وعقائد أخلاقية ذات أصول فلسفية. يرى رولس أن هذا التنوع ليس غريباً طالما أن حماية الحرية الفردية التي ترسخها المجتمعات الديمقراطية تقود بطبيعتها وبمرور الزمن إلى زيادة التنوع بما يسميه «الخلفية الثقافية»، أي، المجتمع المدني – المكان الذي نزرع فيه أهدافنا ومثلنا الشخصية. إن تسليط الضوء على الخلفية الثقافية للديمقراطيات الحديثة التي تتسم بالتنوع ليس جديداً . معظمنا يدرك ذلك عند النظر إلى ما حوله. الشيء الجديد هو اعتراف رولس بأن هذا التنوع المتزايد خلق المشكلة التبريرية للديمقراطية.
المشكلة هي كالتالي: إذا كانت العقائد التي نؤمن بها متصارعة ولا يمكن تسويتها، فأي منها يمكن استخدامه لتبرير النظام الديمقراطي ذاته؟ وبعبارة أخرى، إذا كنت أنا لا أرغب القبول بالنظام السياسي المرتكز على عقيدتك، وأنت أيضاً لا ترغب القبول بالنظام المرتكز على عقيدتي، عندئذ كيف سنتمكن من وضع قواعد مشتركة تساعدنا لنعيش سويةً؟ هذه المشكلة تُعرف من جانب الفلاسفة السياسيين بـ «مأزق التبرير الديمقراطي». لكن دعنا نتفحص هذا المأزق وبتركيز أكبر.
أيّ نظام سياسي، بما فيه الديمقراطية، يأمر باستخدام سلطة الدولة من خلال نظامها في العدالة، ويضع القواعد لما يُعد إلزاماً شرعياً. إنه يقرر ما هو قانوني وما هو غير قانوني، ومن ثم يسمح للحكومة باستخدام القوة من خلال المحاكم والشرطة والجيش، لإجبار من يخرج عن الخط. ولكن في الديمقراطية، حسب التعريف، كل المواطنين لهم نصيب متساوٍ من السلطة السياسية – أي بمعنى أنه لا أحد له سلطة إجبار الآخرين بدون قبول حر مسبق من أغلبية المواطنين. لذا، لكي تكون ممارسة السلطة السياسية شرعية في الديمقراطية، فإن سبب تبرير القمع يجب أن يُحدد في عبارات ملزمة لكلا الأطراف؛ بحيث يمكن قبولها من كل شخص (على الأقل من الغالبية المصوتة). هذا يُعرف بمبدأ الشرعية الديمقراطية أو مبدأ التبرير الديمقراطي. وهنا يكمن المأزق: إذا كانت الحرية الديمقراطية تسمح لعقائدنا بالتنوع المتزايد لدرجة تبدو فيه غير قابلة للتوافق، فكيف نستطيع إيجاد عبارات تنال القبول من الجميع؟ وكيف ستكون تلك العبارات؟
بكلمة أخرى، لو اعتبرنا الديمقراطية كنظام مبرر بمبادئ أخلاقية تتقاطع أحياناً، حينما كل مساحة أو جزء تمثل رؤية مختلفة أو مجموعة من الأفكار. إذا كان كل جزء يصبح أكثر وأكثر تميزاً، وينسحب بعيداً عن الأجزاء الأخرى للفكر مع زيادة التنوع، فإن المساحة المشتركة للاتفاق تصبح أصغر ثم أصغر، والديمقراطية تكون في خطر.
الإشكالات السياسية تحدث باستمرار في المجتمع الديمقراطي، خاصة عندما تصبح أكثر تنوعاً، والقيم المشتركة التي نلجأ إليها لتسوية الخلافات تصبح أقل مع زيادة التنوع. المأزق يبدو كما لو أن مزيداً من الديمقراطية يقودها لتأكل ذاتها. هل نحن إذاً مُلامون على الديمقراطية الهشة التي فقدت تبريريتها المشتركة والتي يُساء استخدامها دائماً، وأننا أمام خطر التدمير من جانب أولئك القادرين على تطوير مبادئهم الخاصة؟ أم أن هناك طريقاً آخر للخروج من هذا المأزق؟
السياسة المستقلة freestanding politics
بما أن المتطلبات التبريرية للديمقراطية تجعل من المستحيل إسناد قوانينها إلى عقائد غير مقبولة لدى عدد كبير من المواطنين، لذا سنحتاج لنبذ الفكرة القديمة بأن السياسة تُشتق من عقيدة معينة. وكما يوضح رولس «بدءاً من الفكر اليوناني فإن التقليد السائد أنه كان هناك تصور عقلاني واحد عن الخير. الهدف من الفلسفة السياسية- دائماً يُنظر إليه كجزء من الفلسفة الأخلاقية إلى جانب الثيولوجيا والميتافيزيقا – كان تقرير طبيعة الخير ومحتواه»(الليبرالية السياسية ص 135). لكنه يستدرك فوراً: «إن السؤال الذي سعى الاتجاه السائد للإجابة عليه لم يجد جواباً: لا وجود لمعتقد شمولي عن الخير يكون ملائماً كتصور سياسي لنظام مؤسسي». بكلمة أخرى، النموذج القديم للسياسة والذي تُبرر فيه المؤسسات والقوانين بالمقدار الذي تعزز به رؤية محددة عن الخير، لم يعد قابلاً للتطبيق في عالم لا نتفق فيه أصلاً حول نوع الخير. في عالم التنوع المفرط، لم نعد نفرض تصوراً معيناً حول الكيفية التي يجب أن نعيش بها جميعاً وأي أهداف يجب السعي نحوها دون النيل من حرية الآخرين.
يصر رولس بأنه في هذا العالم المتنوع الذي ساعدت الديمقراطية ذاتها على خلقه، لا يمكن أن يأتي تبرير للسلطة السياسية من الدين ولا من القيم الأخلاقية العلمانية. القوانين دائماً تنطوي على استعمال قسري لسلطة الحكومة، لذا إذا كان التبرير لبعض القوانين يأتي من الدين، فإن ذلك مخالف لمبدأ التبرير الديمقراطي، لأنه ليس جميع المواطنين يقبلون الأسباب الدينية كمصدر للقوانين والذي في النهاية سيختزل حرياتهم. ونفس الشيء ينطبق على التقاليد العلمانية: إذا كان على سبيل المثال تبرير قوانين معينة مشتق من أفكار التنوير عن الكائن البشري كسبب عالمي مشترك (كما يرى كانط)، أو من حسابات النفعية للخير الأعظم (كما بالنسبة إلى جون ستيوارت مل)، فإن الأفراد المتدينين في المجتمع بدورهم سيعارضون ما يرونه إكراهاً علمانياً غير مقبول.
إذا كانت عقائدنا الدينية والأخلاقية لا تستطيع العمل كأساس للنظام السياسي في مجتمع تعددي، فكيف سنعمل؟ أول خطوة لدى رولس تكمن في إدخال فكرة السياسة «المستقلة»، التي لا تُشتق من أي من المذاهب المتنافسة. لكي نبدأ بفهم الفرق بين التصور السياسي المستقل وعقائدنا السياسية العادية، يدعونا رولس للتفكير بمبادئ العدالة «كما صُممت لتشكل العالم الاجتماعي الذي فيه تُكتسب أولاً شخصيتنا وتصورنا عن ذاتنا كأفراد، بالإضافة إلى رؤانا الشمولية وتصوراتنا عن الخير»(ص41).
في هذا، هو يسألنا لنتصور إطاراً، في ظله نتابع أهدافنا المختلفة وغاياتنا الشخصية. هذا الإطار هو الاستقلالية، بمعنى أنه يسبق أي قيم نتابعها ضمن حدوده. وفي النتيجة يجب أن يُبنى هذا الإطار قبل إدخال أي أديان معينة أو أفكار أخلاقية. لكي نفهم هذا أكثر، يسألنا رولس لنفكر حول ما يحدث عندما يغيّر أي واحد منا تصوره عن ماهية الخير إما فجأة أو بمرور الزمن. عندما يحدث هذا، نحن عادة نذهب للقول إننا لم نعد الأشخاص أنفسهم. لكن رغم هذا، فإن هويتنا المؤسسية والسياسية والحقوق يجب أن تبقى سليمة. هذا هو بالضبط معنى السياسي المستقل. هذا يبين كيف أن التصور المستقل للعدالة السياسية يشكل الإطار المؤسسي الذي يمكّننا لنصبح مواطنين مستقلين لدينا المقدرة لمتابعة أهدافنا.
ولكن لو قبلنا افتراض رولس بأن الفلسفة السياسية تحتاج لعرض نفسها بعبارات مستقلة، فماذا يعني هذا بالضبط، وكيف نستطيع إنجازه؟ لكي يوضح رولس كيف يتم هذا حقاً، هو يُدخل أهم أفكاره، وهو مفهوم المعقول reasonable.
لنكن معقولين
إذا كان النظام السياسي يهدف فعلاً ليكون مستقلاً، عندئذ، لكي يتجنب الانحياز إلى أحد الأطراف، فهو يحتاج إلى الوقوف خارج عالم «الحقيقة» المتنازع عليها. أي ادّعاء بالمصداقية سوف يسحبه فوراً إلى دين معين أو قيم أخلاقية أخرى، ويضعه في منافسة مع عقائد أخرى حول ماهية الحقيقة. لذا بدلاً من عمل ادّعاءات مطلقة للحقيقة، فإن الليبرالية السياسية لرولس تشير إلى تصوره السياسي للعدالة كمعقول.
وكما يعرّف رولس المفردة، فإن الفكرة أو الفرد يُعد معقولاً سياسياً، إذا كشف عن سمتين رئيستين:
1- إنهما يجب عليهما احترام مبدأ التبرير الديمقراطي، أي أنهما يجب أن يقترحا عبارات للتعاون الاجتماعي يقبل بها الآخرون.
2- يجب عليهما الاعتراف بما يسميه رولس «أعباء الحكم» burdens of judgment (1)– حقيقة أن المواطنين يمكنهم الوصول إلى مختلف العقائد في بحثهم الجاد عن الحقيقة.
حين نضع هذين العنصرين مع بعضهما، نستطيع القول إن الفرد المعقول سياسياً هو الذي يقدم عبارات متبادلة للتعاون ويتوقف عن استعمال السلطة السياسية في تفضيل رؤيته أو قمع آراء الناس المعقولين الآخرين. الناس المعقولون سياسياً يعترفون بأنه في السياسة والأخلاق والدين تكون «الحقيقة التامة» غير متفق عليها ويصعب الوصول إليها، ويقبلون بالقيود التي يضعها هذا على ما يمكن جلبه للميدان السياسي. هذا المطلب لمعقولية الفضيلة السياسية يسمح لرولس بالوصول إلى واحدة من الأطروحات المركزية في ليبراليته: في عالم متنوع، لكي يكون تصور العدالة معقولاً، لا بد أن يكون محايداً بين المذاهب الرافضة للتسوية. يجب ألا يعبّر عن أفضلية أو تعزيز أي نوع معين من العقائد، ولا يحاول إقناع الأفراد لاحتضان رؤية محددة. السياسة التي تقف إلى جانب أي عقيدة سواء كانت دينية أو علمانية، هي غير معقولة وبالتالي غير شرعية.
الموقف الأصلي: تقليد المعقولية
بعد تأسيس المعقولية كمستوى يعمل به النظام السياسي المستقل، يبدأ رولس أخيراً بعمل موقف لرؤيته عن العدالة. غير أن متطلبات الحيادية التي تحتاجها المعقولية تبدو قيداً صعباً للناس الذين يفضلون في الظروف العادية صيغتهم الخاصة للخير. لذا، لكي نخلق الظروف لتسهيل مشاورات معقولة، يرى رولس أننا يجب أن نجد وجهة نظر فيها توضع جانباً ظروفنا الخاصة. لهذا هو يستخدم «الموقف الأصلي» الذي طوّره في (نظرية العدالة 1971).
الموقف الأصلي هو تجربة فكرية تسمح لنا لنكون معقولين إلى أكبر قدر ممكن. يسألنا رولس أن نتصور أننا مختفين وراء ما يسمى «قناع الجهل» الذي يزيح معرفتنا بظروفنا الاجتماعية وتصوراتنا عن الخير. يقول رولس: «إن الخصائص المتصلة بالموقف الاجتماعي، الموهبة الأصلية، الأحداث التاريخية بالإضافة إلى محتوى الأفراد» التي تقرر التصورات عن الخير هي غير ملائمة، ولهذا توضع خلف قناع الجهل(ص79). هو يرى أنه في ظل هذه الظروف سنفضل تصوراً معقولاً للعدالة، وبما أننا لا نتبنّى أي مذهب معين، عندئذ سنكون منشغلين فقط بوضع إطار مؤسسي يكون عادلاً، بصرف النظر عن العقائد والمواقف الاجتماعية التي ستكون لدينا حينما يُرفع القناع.
يقول رولس إن رؤيته للعدالة التي يسميها «العدالة كإنصاف» هي محصلة واضحة للموقف الأصلي، طالما أن الأفكار السياسية التي تؤيدها هي الأكثر معقولية. إنها تصور ليبرالي للعدالة، بمعنى أن الحريات الأساسية كحرية المعتقد وحرية التجمع والكلام تُعطى أولوية على أي قيم أو ادّعاءات عامة أخرى. الليبرالية السياسية ذات تبرير مستقل، أي أنها نتيجة واضحة لمتطلبات المعقولية كفضيلة سياسية غير مشتقة من أي دين أو مذهب علماني. بكلمة أخرى، إذا كان الفرد العقلاني شخصاً يحترم مبدأ التبرير الديمقراطي لسلطة الدولة، ويقبل بعدم إمكانية الوصول إلى حقيقة واحدة متفق عليها، فإن هذا الفرد سيفضل الإطار المؤسسي الليبرالي. وهذا استنتاج مستقل، بمعنى لا لجوء فيه لدين أو أي اعتبارات أخلاقية أخرى.
مشكلة الاستقرار
تحدثنا عن الكيفية التي عالج بها رولس مشكلة التبرير الديمقراطي في المجتمعات التي تعاني من انقسام عميق في آرائها المتنافسة. يعرض رولس ما يراه إطاراً ملائماً للعدالة الديمقراطية المتنوعة. هذا يُنتج حسب زعمه نسخة لليبرالية محايدة أيديولوجياً وسياسية خالصة. لكن المشكلة الكبرى تبقى هي مشكلة الاستقرار. ماذا لو بعد رفع القناع، لن نستطيع التسوية بين العقائد التي نجد أنفسنا فيها والإطار المؤسسي الذي اتفقنا عليه أثناء الموقف الأصلي؟ نحن يُحتمل أن نقبل بالنتيجة طالما ليست لدينا الوسائل لفرض رؤيتنا على أي شخص آخر. لكن رولس يعتقد أن هذه نتيجة غير مرضية وغير مستقرة. ما يأمله رولس هو حالما يُرفع القناع سنجد مصادر كافية ضمن عقائدنا لدعم الترتيبات السياسية التي نجد أنفسنا فيها الآن. وهكذا بينما صيغتنا الخاصة للحقيقة يجب ألا تؤسس الإطار السياسي، لكنها يجب أن توفر أسباباً كافية لدعمه. هنا، يلتفت رولس إلى فكرة «الإجماع المتشابك» overlapping consensus (2) للعقائد المعقولة.
إذا كنت أنت وأنا والآخرون لا نتفق جذرياً في عقائدنا، وكنا جميعاً نحتفظ بمتطلبات المعقولية (نحترم الحاجة إلى تبرير ديمقراطي ونقبل بأن الناس سيكون لديهم دائماً عقائد مختلفة) عندئذ سيكون هناك التقاء كاف بيننا لتسهيل الإجماع على المستوى السياسي. حقيقة أن تفكيرنا معقول هو ما يشدّنا مجتمعين رغم اختلافاتنا الأصولية. الديمقراطية الليبرالية لا يهمها بالضبط الكيفية التي يبرر بها كل دين أو اتجاه علماني لنفسه احترام فضيلة المعقولية، بل إن المهم أن تقوم بذلك بطريقة ما. لكي تكون الديمقراطية مستقلة وسط التنوع الرافض للتسوية، فإن عقائد مواطنيها بحاجة لتكون معقولة. هذا المطلب يحمل نتائج عملية هائلة سنشير إليها الآن.
اللامعقول وصعود الأصولية
رغم العديد من الانتقادات لليبرالية رولس السياسية، إلا أن أفكاره المركزية تعكس إلى مدى كبير الكيفية التي تعمل بها الديمقراطيات حالياً. ما تقوم به الدولة من تعزيز للحقوق الأساسية والحريات إلى جانب هدفها في البقاء محايدة وسط رؤى مواطنيها غير القابلة للتسوية، هو خاصية رئيسة لمجتمعاتنا. الفكرة بأن هناك إطاراً مستقلاً للعدالة يضمن الحريات الفردية وسابق لما نؤمن به، هو أساس ما نأمله من تعزيز للاستقرار في الديمقراطيات المتنوعة. ولكن ما يؤكده رولس هو أن هذا الأمل يعتمد على قبول كل شخص بفضيلة المعقولية. المواطنون غير العقلانيين يرفضون فكرة أن التزاماتهم كمواطنين لها أسبقية على عقائدهم. هذا يقود إلى رفض ما تدعو إليه فكرة رولس في المعقول، أي الاعتراف بأن التنوع يضع حدوداً لما يمكن أن يدخل ضمن السياسي.
اعترف رولس بأنه إذا فشل المواطنون في الاحتفاظ بالمعقولية، فإن هيكل الديمقراطية الليبرالية بالكامل سيكون في خطر. في مكان ما هو يسأل: «ماذا لو ثبت أن مبادئ العدالة كإنصاف لا تستطيع أن تنال دعم العقائد المعقولة، وبذلك سيفشل الاستقرار؟.. العدالة كإنصاف ستكون في مشكلة»(ص65).
في التسعينات من القرن الماضي عندما كتب رولس الليبرالية السياسية، كان لا يزال هناك سبب للتفاؤل الحذر بأن معظم الجماعات الدينية والعلمانية ستدعم الأنظمة الديمقراطية بالاستفادة من المصادر ضمن رؤاها الخاصة. ولكن رغم كل ذلك، فقد أدرك أن هذا كان خيالاً: «أنا أفترض هنا بتفاؤل كبير أنه ما عدا أنواع معينة من الأصولية، فإن جميع الأديان التاريخية تعترف بهذا التفكير، وهي بهذا ربما ينظر إليها كعقائد شمولية معقولة.»( ص 170)، في عالم ما بعد سبتمبر 2001، نستطيع أن نرى أن هذا التفاؤل بلا أساس. إذا كان استقرار الديمقراطيات التعددية يعتمد حقاً على جعل جميع المواطنين يقبلون بفكرة أن «الإيمان بصحة التصور السياسي كحقيقة... هو خاص، وحتى طائفي، ويُحتمل أن يسرّع الانقسام السياسي»(ص129)، حينئذ سنكون في مشكلة عميقة. لا توجد ليبرالية سياسية لأولئك الساعين لرفع صيغتهم حول الأخلاق إلى الميدان السياسي بدلاً من الإشارة إلى حقيقة أنهم غير معقولين سياسياً. رولس واع جيداً بهذا عندما يناقش كيفية الرد على الأصولية: «نحن ببساطة نقول إن هكذا عقيدة هي غير معقولة سياسياً. ضمن الليبرالية السياسية لا حاجة للقول أكثر من هذا». طالما لدينا القليل من القول للفاعلين غير العقلانيين عدا الإشارة إلى افتقارهم للعقلانية- والذي لا يُحتمل أن يسبب لهم القلق – عندئذ فإن الشيء الوحيد المتبقي لليبرالية السياسية هو «المهمة العملية في احتواء عيوب ما يُسمح به كمعقولية وترخيص الدولة لتحطم كلياً الأصولية غير المتعاونة كما في حالة المرض. ولكن ماذا لو انتشر المرض لدرجة تصبح فيه أية محاولة لاحتوائه تقود إلى اتساع الوباء؟ نعتقد أن هذا هو الموقف الذي نحن فيه الآن.
كما قلنا في البداية، القيمة الكبرى لفهم جدال رولس هي الاعتراف بأن الشروط المطلوبة لليبرالية السياسية، كي تعمل، هي الآن بعيدة المنال. الحقيقة هي أن التحديات أيام رولس كانت رقيقة قياساً بالتحديات أمام الأجيال الحالية. ورغم النية الحسنة لليبرالية السياسية، فهي لم تعدّ الجواب. وراء حدود المعقول، فإن أي إصرار على نسخة رولس من الليبرالية، لن يقودنا إلى النجاح. إذا أريد النجاح للديمقراطية في هذه الأوقات غير العقلانية، سنحتاج لخلق دفاع أخلاقي عن التعددية، تستطيع فيه الاستحواذ على قلوب وعقول جميع أولئك المفتونين بالأناشيد الوطنية والشعارات العنصرية.
Democracy and the Unreasonable: Lessons from Rawls, philosophy Now Oct/Nov 2017
......
الهوامش
(1) وهي حسب رولس قائمة بالعوامل التي توضح لماذا يحتفظ الأفراد المعقولين في المجتمع التعددي بتصورات مختلفة وغير منسجمة حول الخير. أعباء الحكم تشبع طموح الليبرالية السياسية في دعم المبادئ السياسية الليبرالية من خلال أدنى تصور أخلاقي ممكن. عبر استخدام هذه الأعباء، سنؤسس السياسات الليبرالية على فكرة أكثر تواضعاً للاختلافات المعقولة متجنبين الاعتماد على الأفكار الشمولية الشائكة حول الخير مثل الاستقلالية، الفردانية، الشكية. البعض انتقد الليبرالية السياسية في تأكيدها على أدنى أخلاقية، لأن هذا سيحرمها من المصادر المفاهيمية التي تحتاجها للتعامل مع القضايا المعاصرة المثيرة للجدل المتعلقة بالدفاع عن السياسات الليبرالية.
(2) بما أن الوصول إلى اتفاق على حقوق الإنسان في عالم متنوع ثقافياً أمر شديد الأهمية، فإن رولس يجادل بأن الإجماع المتداخل يمكن الوصول إليه عبر استبعاد المذاهب الميتافيزيقية والفلسفية والدينية والشمولية الأخرى من التبرير السياسي. فمن أجل ضمان الاستقرار دون الاعتماد على رؤية شمولية، يطور رولس مفهوم الإجماع المتداخل. وهنا تدّعي الليبرالية السياسية أنها تعرض جدالاً سياسياً مستقلاً للعدالة، يمكن القبول به من جانب أي مذهب شمولي معقول. التصور الأكثر معقولية وملاءمة للعدالة في المجتمع الديمقراطي التعددي، هو التصور الذي يسمح للمذاهب الشمولية لتأكيد هذا التصور السياسي والارتباط بإجماع متداخل.