لابُدّ أنك ستجد نفسك في موقفٍ لا تحسد عليه، فقد تشعرُ بالرثاء للمتحدّث وترى في حديثِهِ نوعاً من الناستالجيّا والتعويض عن النقص الذي يحسّه الآن بالمقارنةِ مع ذلك الماضي المجيد، وقد تشعُر بالملِلِ فتعتذر عن المتابعة وتنأى بنفسكَ.
لكن انظروا كيف يستطيعُ شاعرٌ موهوب أن يَجعَلَ من هذا الموضوع الممجوج شيئاً خلاباً إلى حدٍ بعيد!
إن الشاعِر المبدع – أيّها الأعزاء – أقربُ إلى تلك الساحرة الجميلة في بعضِ الحكايات الشعبيّة، إنّها قادرة بعصاها السحريّة على تحويل ضفدعٍ إلى أميرٍ وسيم، وتحويل يقطينة كبيرة إلى عربةٍ فارهةٍ تجرّها الخيول!!
ها هو ذا عُمر أبوريشة يريد أن يذكّرنا بماضي العرب المجيد في مواجهةِ حاضرهم الرديء... والكلامُ عام 1953 – لكنّهُ يعلم تماماً أن الموضوع الذي سيكتبُ فيه قليل الشعبيّة وأن التصدي له مسألة محفوفة بالمخاطر، فيلجأُ إلى حيلةٍ فنيّة جميلة، حيلة من شأنها أن تشدّ انتباه السامِعِ أو القارئ وبالتالي يضمن الشرط الأوّل لنجاح العمل وهو عنصر التشويق، ها هي ذي فتاةٌ إسبانيّة بديعةُ التكوين تصعدُ الطائرة، التي يستقلّها الشاعرُ في رحلتِهِ إلى تشيلي، وتجلسُ في المقعد المجاور:
وثبتْ تستقربُ النجمَ مجالاً
وتهادتْ تسحبُ الذيلَ اختيالاً
وحيالي غادةٌ تلعبُ في
شعرِها المائجِ غُنجاً ودلالاً
طلعةٌ ريّا وشيءٌ باهِرٌ
أجمالٌ؟ جَلّ أن يُسمى جمالا
يُسْبِغُ الشاعر على المرأة أجمَلَ الصفات، حتى أنّه يسمّي حُسْنَها «شيئاً باهراً» ويبحثُ عن معادلٍ لهُ في اللغة: «أجمالٌ؟؟» ثُمّ يستبعد ذلك فبهاؤها أجلّ من أن يسّمى جمالاً!!
لقد شَدّ المتلقي إليهِ، وضمن حسنَ انتباهِهِ، لكنّه مع ذلك يتابِعُ في التمهيد لموضوعِهِ الرئيس فيبينُ أن الفتاة ليست رائعة الطلعة فحسب بل هي متحدّثة رزان وقور، صاحبة حسٍ عالٍ وخيالٍ مُحلّق لا إسفاف فيهِ:
وتجاذبنا الأحــاديثَ فما
انخفضتْ حِساً ولا سفّتْ خيالاً
إذاً أمام هذا البهاء كلّه! أمام هذا الجمال ما الذي سيفعله الشاعر؟! هل سيحدّثُ جارَهُ عن قومِهِ، عن تاريخهم العريق وأمجادهم؟ إن أحداً لن يقبلَ ذلك منهُ، وسَيُتَهمُ في عقلِهِ وحصافتهِ؛ من ذا الذي يحدّث امرأةً كهذهِ في موضوعاتِ التاريخ ومشاكل الأيام الغابرة؟!
المفاجأة أن الشاعِرَ سيجعَلُ هذا الجار الجميل يتحدّث فيما توقعنا أن يبدَرَ عنه وهنا سِرّ نجاح العمل الثاني:
قلتُ يا حسناءُ، من أنتِ ومن
أي دوحٍ أفرَعَ الغُصنُ وطالا
فرنتْ شامخةً أحْسَبُها
فوقَ أنسابِ البرايا تتعالى
وأجابت أنا من أندلسٍ
جنّةِ الدنيا سهــولاً وجبــالا
ولا تتوقف المرأة عند هذا الحد، بل تتجاوز الأندلس الأرض الجنّة إلى الحديث عن أجدادها، ومع ذلك سنصغي إليها وسنقبل منها ما تقول فليس من اللباقة و»الإتيكيت» في التعامل مع النساء الحِسَان أن تُظهِرَ مللاً أو تبرماً مما يقلن لك!
وهكذا نستمِعُ إلى قولها:
وجدودي ألمح الدهرَ علــى
ذكرهمْ يطوي جناحيه جلالاً
حملوا الشرق سناءً وسنىً
وتخطّوا ملعب َ الغرب نضالاً
فنما المجد على آثارهـــــم
وتحدّى بعد ما زالوا، الزوالا
هؤلاء الصيد قومي فانتسبْ
إن تجد أكرم من قومي رجالاً
ومع أن صوت الفتاة هنا مثقلٌ بصوت الشاعر ولغة أبناء قومه الطافحة بالفخر والخيلاء، لكننا سنتعاطف مع كلام وضع على لسان فتاة حلوة، ثم يأتي البيت الأخير لينقذ الموقف، إنها تقنيّة برع فيها أبو ريشة في كل قصائده تقريباً.... إنها «فضيلة القفل»:
أطرق القلب وغامت أعيني
برؤاها وتجاهلت السؤالا!
لقد امتلأت نفسه غبطة ً ومرحاً وتملّكت السعادة روحه! فأطرق القلب هنيئاً... ليس فقط بسبب تلك المدائح التي كالتها الفتاة لأجداد الشاعر – دون أن تدري بذلك – وليس لأنها تعود إليه بنسبها فحسب، وليس لهذا الجمال الخلاّب والحديث الساحر والطيب الذي نثرته يميناً وشمالاً فحسب.... بل لأجل كل ذلك مجتمعاً في امرأة!! امرأة واحدة. الآن ألقى سؤالها جانباً، وما عاد يعنيِهِ كل ما جاهد من قبل كي يبلغنا إياه... الآن امتلأت روحه حتى الجمام بهذه المرأة!!