تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


بقعة ضعف

ملحق ثقافي
13/12/2005م
نزيه بدور

-1- انتصف الليل. عب بعض الدخان، ونفثه بعيدا متسائلا: أعرف لماذا أحبها، فهي حلوة، رقيقة، ذكية وربما لأنها أديبة، تصوغ الكلمات،

وترسم الأفكار. بقلمها يعشوشب ظامئ الرمل، ويسيل ماء البحر بين سطورها فيصبح عذبا مستساغا. ولكن لماذا أحس أحيانا قليلة بكرهها؟ ربما لأنني ضعيف أمام إبداعها، أستهلك الثقافة الإنسانية ولا أستطيع إنتاج صورة منها، هل هي عقدة النقص أمام المبدع ؟ أليس الإبداع هو ما يميز الإنسان عن الخروف أو الشجرة؟. أضاف إلى رئتيه «عبّة» أخرى من دخان نارجيلة متعبة، بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد عذابات الاحتراق على مدى ساعة كاملة، وبعد معالجات عديدة قام بها نادل المقهى النشيط، الذي كان يحضر بين الفينة والأخرى مسرعا، يقلب جمراتها وينفضها، ويستبدل الجمرات الكامدة بأخرى متوهجة. رفع رأسه ورنا إلى سقف الصالة الكبيرة، فحلقت أفكاره المضطربة وتعانقت مع الدخان الأبيض، هدأ خاطره للحظة، شعر بالطمأنينة، ذهب بنفسه إلى آفاق أبعد من ذلك المحيط الخانق. أعاده صوت صبي المقهى إلى الزمان والمكان الواقعيين حين أصلح النارجيلة وناوله إياها قائلا بصوت عال: تفضل يا دكتور. -2- بالنسبة له، وبعد سلسلة من خيبات الضوء وعواصف العتمة في علاقاته مع أصدقائه، وهو من كان دائما صديقا مخلصا مستعدا للتضحية، صارت النارجيلة نديما وفيا، يجد في احتراقها لإسعاده نفحة من نفحات التضحية. إنها صديقة تنخر عظام الوقت، فتهرب الثواني والدقائق مسرعة. تغريه صديقته الزجاجية بالوهم، فيحضر إليها كل مساء ويتناول جرعة كبيرة منه. بعد أن يؤدي جميع هزائمه الإنسانية والروحية، على مدار يوم عمل شاق، يخف مستعجلا في أزقة المدينة القديمة، للوصول إلى المقهى المسمى باسم تلك السيدة الحمصية “جوليا دومنا”، التي تزوجت الامبراطور الروماني، وأنجبت له رجالا حكموا روما. يسرع إلى ذلك المكان، كي يحتفل بخيبته، ويمجد ضعفه. يحضر فيمارس طقوس الحب المقدس مع خيوط الدخان ويروض روحه بكأس من الشراب. اليوم أيضا عاد في وقت متأخر من الليل إلى بيته محدثا نفسه: هذا آخر يوم لي مع ذلك الدخان الذي يملأ صدري ويجفف حلقي وربما غدا سأقلع عنه. ثم أبعد بعض الكتب المتكدسة والأقراص المدمجة، مفسحا مكانا لنفسه، ورمی بجسمه الثقيل إلى أقرب أريكة من التلفاز. أسند رأسه المفعم بالخمر والدخان والخوف، وسمح لنفسه بالتفكير بحبيبته الأديبة: غدا لن أتصل بها، سأثبت لها أنني رجل قوي الإرادة، وما ضر لو مر يوم أو يومان دون محادثة هاتفية، ودون ممارسة طقوس التوسل لرؤية عينيها؟ سأثبت لها أن الحياة حلوة، حتى عندما يغيب جسدها إلى العاصمة في رحلة دورية، ويبقى طيفها مختلطا بالدخان والموسيقا، ومتغلغلا بالهواء والضوء. سأثبت لها أن الوقت سوف يتدفق بنفس السلاسة والنعومة، دون أن يتضمّخ بعطر أنوثتها، ودون سماع صوتها المنساب عبر أثير الهاتف. كيف للصوت أن يحمل تلك الغواية!؟ ثم اعتدل في جلسته وتساءل: لم كل هذا؟ أنا أحبها وأشتهي وصلها، فلم هذه المكابرة الفارغة. بحركة لاشعورية، يمسك جهاز التحكم، ويتجه إلى التلفاز مقلبا عشرات المحطات الفضائية المتتالية، دون التوقف عند إحداها، ويقرر بحزم: سأرسل لها رسالة بالهاتف المحمول، أذكرها بمحاضرة الغد في المركز الثقافي، وهي محاضرة لأديب عربي كبير حل ضيفا على مدينتنا المنسية. سألفت نظرها إلى استعدادي لمرافقتها رغم انشغالي الشديد. سيكون ذلك لقاء عمليا، وستشعر أن من يقف إلى جانبها طبيب مرموق، رجل كبير العقل، غزير الثقافة ومتوازن العاطفة.... لا! لا! اشتقت لصوتها. سأتصل بها. سأوقظها وأقول لها: إنني أحبها. ستقول لي بهدوئها المعهود وبصوتها المبحوح الناعس: إنها تعرف ذلك، وهذا وقت النوم لا وقت الحديث عن الحب، غدا سيكون يوم آخر، وسيكون لنا متسع من الوقت لمناقشة جميع المواضيع. وسيتلاشى صوتها بعد كلمة وداع رقيقة مقتضبة، وتحل محله ترقيمة الهاتف الرتيبة، تطرق دهاليز الأذن ممزقة مساحة الصمت. اتسعت دائرة الفراغ والضجر حتى شملت جميع أركان الغرفة المبعثرة، وقبضت كماشة الشوق على خافقه التعب، فانتفض متوسلا: آن أوان النوم.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية